مقدمة في نشـــأة الفـلســـفة

د. أحمد الفراك (المغرب)

 تقديم إشكالي:  

          كثيرة هي الأسئلة التي تُطرح عندما تُذكر كلمة "فلسفة"، ومنها: ما معنى فلسفة؟ أين ظهرت؟ ومتى ظهرت؟ لماذا ظهرت في هذا البلد وليس في ذاك؟ لماذا في هذا الزمان دون غيره من الأزمنة؟ وما الفائدة منها؟ وهل هي علم من العلوم أو فن من الفنون أو غير ذلك؟ ما هي الشروط التي ساهمت في بروز هذا النمط من التفكير وفي انتشاره؟ ثم ما هو الجديد الذي حملته الفلسفة بصفة عامة معها بالقياس إلى أنواع التفكير الأخرى؟ 

 كيف نفسر فعل نشأة الفلسفة وانتشارها؟ هل بالحروب والاجتياحات أم بالتجارة والهجرة؟  أم بالثقافة السائدة آنذاك؟ أم بشكل النظام السياسي والاقتصادي؟ أم ببنية المدينة اليونانية وخصوصيات تركيبها؟  

محددات فعل النشأة: 

     عرفت الفلسفة عبر تاريخها الطويل تعريفات متعددة اختلفت في تحديد دلالتها،  وفي الدلالة الاجتماعية توصف الفلسفة بصفات قدحية تقلِّل من قيمتها وأهميتها من قبيل أنها ضرب من الزندقة والكفر والإلحاد تعمل على ترسيخ فكرة نكران وجود الله وعدم الاعتراف بالدين، أو أنها ضرب من الكلام الفارغ الذي لا طائل منه سوى مضيعة الوقت...وهذا سيتبين عدم صوابه فيما يأتي: 

 يتحدد فعل النشأة التاريخية للفلسفة بثلاثة محددات، هي المحدد اللغوي، والمحدد المكاني، والمحدد الزماني.  

 من حيث اللغة كلمة "فلسفة" philosophie هي لفظة يونانية مركبة من كلمتين هما :فيليا Philia وتعني "محبة" وصوفيا Sophia وتعني "حكمة" أي محبة الحكمة Philosophia.

ومن حيث المكان: 

 يرتبط ظهور الفلسفة ببلاد اليونان القديمة وخاصة بين المدينتين ملطية وأثينا. ومنهما إلى باقي المدن...

 ومن حيث الزمان: 

 فمنذ بداية القرن السادس إلى القرن الرابع قبل الميلاد ظهرت الإرهاصات الأولى للتفكير الفلسفي ونضجت، ففي مدينة "ملطية" ظهر بعض الحكماء الذين تجاوزوا الذهنية التقليدية التبسيطية، وطرحوا أسئلة عميقة عن أصل الكون وماهية الوجود، حتى أُطلق على هؤلاء اسم حكماء طبيعيين، أمثال طاليس وأنكسمندر وأكسمانس...  

هؤلاء الحكماء الطبيعيون الذين اندهشوا من التغير الذي يطرأ على الأشياء، الأمر الذي دفعهم إلى البحث عن طبيعة تلك المبادئ بإرجاع المتعدد إلى الواحد والمتغير إلى الثابت. منهم طاليس الملطي الذي أرجع أصل الحياة في الكون إلى الماء بقوله: "العالم يخرج من المحيط ويعود إلى المحيط"، و أنكسمندر الذي اعتبر "اللانهائي" هو العنصر الأولي في الطبيعة، أما أنكسمانس فقد قال بالهواء، في حين قال هيراقليطس بالنار كعنصر أولي، ومنهم من قال: التراب...وهذا ما يسمى بالأسطقسات الأربع.

 ويعتبر فيتاغورس (572 - 497ق.م) وهو عالم رياضيات وفيلسوف يوناني في القرن الخامس قبل الميلاد أول من أطلق عليها هذا الإسم وأول من أراد لنفسه أن يكون محبا للحكمة، إذ قال: "لستُ حكيما لأن الحكمة لا تُضاف لغير الآلهة، إنما أنا مُحبٌّ للحكمة".

وهكذا فمنذ بداية ظهور "الفلسفة"، يتبين أنها جاءت معارضة للأساطير المفسرة لأصل العالم، لذا كانت بدايات التفلسف محاولة لمعرفة حقيقية بالكون المحيط بالإنسان والمنتظم وفق قوانين لا تقبل العبث والصدفة، هذه المعرفة هي التي سمحت للإنسان أن يحتل مكانه الحقيقي بين الآلهة والحيوانات في قلب العناصر الطبيعية...

 وفي القرن الرابع قبل الميلاد حدث الانتقال من الحكمة إلى الفلسفة، ومن التأسيس إلى النضج مع شهيد الفلسفة اليونانية سقراط (468-399 ق.م) الذي يرى أغلب الباحثين في تاريخ الفلسفة أنه يرجع إليه الفضل في إرساء أسس التفكير الفلسفي القائم على الحوار التوليدي الشجاع.

  ورغم أن سقراط لم يخلف أثرا مكتوبا، إلا أن تلميذه أفلاطون هو الذي خلده من خلال محاوراته الشهيرة. (أنظر مقالنا: سقراط فيلسوف الحوار والتوليد). 

 الشروط الثقافية لظهور الفلسفة 

 جاءت الفلسفة في بدايتها الأولى في القرن السادس قبل الميلاد لمعارضة ومواجهة الأسطورة ليحل (اللوغوس) Logos ، وهو كلمة يونانية تعني الكلمة الإلهية أو الحكمة الإلهية وتُرجمت أيضا إلى الخطاب، المبدأ، العقل والعلم محل (الميثوس) Mythos، وهو كلمة يونانية تعني الأسطورة، وهي خطاب شفوي خال من كل معقولية برهانية سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون. كما نجد ذلك في بعض الكتابات اليونانية التي تتحدث عن "أصل الآلهة " ل"هِزْيُود" و"الإليادة و"الأُوديسَّا" للشاعر الملحمي "هُوميروس"وهكذا سيحل اللوغوس الذي يستعمل البرهان من خلال توظيف الحجة محل الميثوس الذي يستعمل فيه السرد الخيالي. فاللوغوس ظهر بشكل بارز مع ظهور الخطاب المكتوب الذي يعتمد العقلانية والصرامة المنطقية والحجة والبرهان وهذا ما يذهب إلى تأكيده جون بيير فرنان (النص). 

 

ويمكن توضيح ذلك من خلال الجدول أدماه:

الشروط السياسية لظهور الفلسفة   
 بالإضافة إلى العوامل السابقة هناك عامل آخر أساسي في ظهور نظام سياسي هو نظامالمدينة -الدولة (Polis)، وهي المدينة التي كانت تحظى باستقلالها الجغرافي والعسكري والسياسي والاقتصادي عن باقي المدن، نظرا للتباعد الجغرافي وصعوبة المواصلات. وقد كانت تعتبر الساحة العمومية Agora قلبها النابض. 
ساحة الأكورا Agora  

 في هذه الساحة العامة تم تطبيق إصلاحات الزعيم السياسي "كليستين" (clisten)، فأصبح اللقاء ممكنا بين جميع المواطنين دون إقصاء، من أجل تبادل الرأي والمشورة ومناقشة قضاياهم الفكرية والسياسية والاجتماعية بحُرية، وكذا الاستمتاع بالمسرح والفنون، مما أشاع الثقافة والمعرفة بين مواطني المدينة، ومن تم أصبحت السلطة والمعرفة شأنا مشتركا وعاما بعد أن كانت حِكرا على عائلات وأُسر معينة تتوارث الحُكم بالعنف والإكراه والأساطير (نظام الطاغية)، وهكذا ظهرت الديموقراطية كنظام سياسي عادل لتدبير شؤون المدينة/ الدولة، ويحافظ على السير العام للمجتمع، بطريقة يشارك فيها الجميع دون إقصاء ولا طغيان ولا احتكار للحقيقة والسلطة. 

وقد ساهم إلى جانب المدينة-الدولة، انفتاح المدن اليونانية وخاصة منها أثينا العاصمة (نظرا لموقعها الجغرافي) على الدول المجاورة، وذلك بفضل مينائها التجاري الذي بوأها مكانة استراتيجية بعد انتهاء الحروب وسيادة السِّلم عقب ذلك، في تطور وانتشار الفلسفة.  وقد ساهم تظافر هذه الشروط إلى جانب عوامل أخرى اقتصادية وجغرافية وتاريخية في إرساء دعائم التفلسف في بلاد اليونان وانتقاله فيما بعد إلى مراكز أخرى من العالم، على افتراض أن اليونان كانت هي المهد.   

 ...................يتبع

فيلم يحكي قصة  "أبو حامد الغزالي" الفكرية  (450-505هـ)

http://www.youtube.com/watch?v=H_NKDlydmpk

فيلم عن فلسفات الغزالي وديكارت وأوغسطين

http://www.youtube.com/watch?v=pIjaorvYZ60