• مفهوم الحرية

    مفهوم الحرية  
     
     
        إعداد: د أحمد الفراك

    تقديم:

    إذا كانت الحرية هي التخلص من الحتمية، أي غياب الإكراه والحرمان على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية، فهل يستطيع الإنسان أن يحيا حريته الفعلية ويتخلص من إكراه الحتميات الموضوعية التي تشرط وجوده؟ أم أنه يتعايش مع الحتمية والحرية معا؟ وهل تتجاوز إرادته الإرادة الكونية الصارمة أم تقف عند حدود الوعي بها ومواتاتها؟ وما علاقة الحرية بالقانون الذي ينظم المجتمع؟ وهل بوجود الدولة تتحقق الحرية أم تتعطل؟ 

    المحور الأول: الحرية والحتمية

    موقف باروخ اسبينوزا: لا حرية للشخص 

    انسجاما مع التصور الموضوعي الذي يعتبر الإنسان مجرد انعكاس ونتيجة لإكراهات وضغوط موضوعية متنوعة: بيولوجية، اجتماعية، وراثية، ثقافية، اقتصادية وسياسية، يرى باروخ اسبينوزا أن الشخص ليس ذاتا حرة، بل هو نتيجة ضرورات وحتميات خارجية، حيث شَبَّه دعوى حرية الإنسان بدعوى حرية حَجرة متحركة بسببٍ مفروض من الخارج هو الذي تُنسب له مسؤولية الفعل وليس الحجرة، أي بفعل قوة مُحرِّكة وليس اختيارا من ذاتها. أما الذين يتبجحون بامتلاك الحرية فهم – حسب اسبينوزا- فقط يعون شهواتهم ويجهلون الأسباب الخارجية التي تحددهم حتميا. وإلا هل يُقبل أن نعتبر الطفل الذي يبكي طلبا للطعام حُرا في طلبه أو الرعديد الذي يفر من المواجهة حرا في هروبه؟ بالإضافة إلى أننا غالبا ما نعرف الأحسن ونرتكب الأسوأ.

    موقف العلوم الإنسانية: تذويب الإنسان في حتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته 

    بانفصالها عن الفلسفة خلال النصف الثاني من القرن 19 توجهت العلوم الإنسانية إلى دراسة الإنسان فجعلت منه موضوعا للمعرفة بعدما كان ذاتا عارفة، وفضحت ضُعفه لما اكتشفت أنه مجرد صورة منعكسة عن المحددات الموضوعية المحيطة به، فهو عند علماء السوسيولوجيا (جي روشيه Guy Rocher) جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، أي أنه نتيجة حتمية لعمليات التنشئة الاجتماعية التي تُلقنه كيفية الإحساس والتفكير والتصرف وتُدمجه في مؤسسات المجتمع لتتشكل هويته النفسية والاجتماعية والمزاجية عبر آليات: التكيُّف والتقمص والاكتساب والقولبة الذهنية، حتى يصير الأنا قطعة من "النحن"، وهو عند علماء الاقتصاد (على الأقل في التصور الماركسي) جزء من البنية المادية للمجتمع تصنعه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وإذا فكر أو عبَّر فإنما يفكر ويعبر انطلاقا من واقعه الذي يعيش فيه، وهكذا باقي فروع العلوم الإنسانية (اللغة، علم النفس، البيولوجيا، التاريخ...) حتى أضحى الإنسان شبحاً بلا معنى، وآلة تُشحن وتُستعمل، فانمحت هيبته وكأنه كان مرسوما من الرمال (حسب تعبير ميشيل فوكو)، وظهرت أصوات تعبر عن هذا الذوبان والاختفاء بمثل عبارة "موت الإنسان" التي تلخص فقدانه لتلك الهالة من التحرر التي كان يَدَّعيها ويزعُمها لما قيل عنه "الإنسان مقياس كل شيء" قبل أن تُنتزع منه ويفقد سمعته.

     

    موقف سارتر: الإنسان محكوم عليه بالحرية

    على خلاف المواقف السابقة يؤكد سارتر أن الإنسان كائن يصنع ذاته بذاته، يعيش بذاته ولذاته، ذاتٌ حرة ومنفتحة على إمكانيات لا نهائية، لأن هويته لا تتحدد بشكل مسبق وإنما بالمشروع الذي يختاره هو لنفسه في المستقبل، حيث يوجد أولا ثم يكون إنسانا فيما بعد بواسطة الأنشطة التي يمارسها مادام وجوده سابق لماهيته، فيختار مثلا بمحض إرادته الانتساب إلى أحد الأحزاب أو تأليف كتاب أو الزواج، إنه الكائن الوحيد الذي يتميز بالتعالي على وضعيته الأصلية وهو مسئول مسؤولية كاملة عما هو كائن، إذ بواسطة الفعل والحركة يستطيع أن يختار ماهيته بنفسه فيصنع الرجل الذي يريده، وبالتالي مشروعه الذي يريد، يقول سارتر: "الإنسان مشروعٌ لا يوجد في سماء المشروعات مشروع مثله". لهذا انتقد المنهج الذي يختزل الإنسان في بُعد واحد مطلق، لأنه  يغفل  أبعاد حقيقية أخرى تحدد ماهيته، ويدافع سارتر عن حرية الإنسان لكونها تشكل جوهر وجوده وأساس الغايات من هذا الوجود، وبناء على حريته يتحمل مسؤولية أفعاله، يقول سارتر "إن البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يصنع من نفسه جبانا"، وهذا لا يعني غياب الضرورات الموضوعية كُلية وإنما يعني أن الإنسان يحتفظ بالقدرة على التجاوز لوضعه وصناعة الذات وإثبات الحرية مهما كانت الظروف والإكراهات، أو بعبارته المختزلة لموقفه: "الإنسان محكوم عليه بالحرية".

    موقف محمد بن رشد : الحرية في مواتاة الأسباب الداخلية والخارجية

     

    ردا على التصورين المتناقضين بين القول بالحرية (القدَرية) والقول بالحتمية (الجبرية)، يرى ابن رشد أن الله تعالى خلق فينا القدرة على اكتساب أشياء هي أضداد، أي منح الإنسانَ الحرية في الاختيار بين فعل الخير وفعل الشر، ليكون قادرا على اختيار أفعاله إذ على اختياره الإرادي تترتب مسؤوليته على تلك الأفعال، لكن حريته كما يؤكد ابن رشد نسبية رهينة بضرورة مواتاة الأسباب الداخلية (قدرات الفرد البدنية) والأسباب الخارجية (نظام الكون) التي تجري على نظامٍ محدود ومُقدر يستحيل إلغاؤه أو تجاهله، حيث يقول: "إن الله تبارك وتعالى قد خلق لنا قوى نَقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا"، أي بالحرية والخضوع للأقدار الكونية في نفس الوقت، وليست فقط الأسباب الخارجية هي التي تحد حرية الفرد بل أيضا الأسباب الداخلية أي حدود قدرة البدن. لتكون الحرية الإنسانية مشروطة بالحتميتين : قوانين الكون وقوة الجسم.

      

    المحور الثاني: الحرية والإرادة

       هل يمكننا الحديث عن إرادة حرة؟ وما هي درجة تحكم إرادتنا في حياتنا؟ وهل نحن مسؤولون عن أفعالنا أم مضطرون إليها؟

    1 - موقف إيمانويل كانط: إرادة عاقلة

     يقول كانط: "الحرية خاصية لإرادة جميع الكائنات العاقلة"، أي انفراد الإنسان بالعقل هو ما يوفر له إمكان امتلاك حرية الإرادة للقيام بكل فعل أخلاقي، فالمجال الذي تمارس فيه الإرادة الحرة فعلها هو مجال الواجب. ذلك أن الإنسان يستطيع ككائن عاقل، أن يعتمد على إرادته الحرة في وضع القواعد العقلية للفعل الإنساني. وعندما يخضع الإنسان لهذه القواعد ويؤدي الواجب فإنه يمارس حريته. أي أن ممارسة الحرية تنسجم مع القيام بالواجب الأخلاقي، فيكون الشخص حرا عندما يُخضع إرادته للأمر الأخلاقي. وعند تحدث كانط على حرية الإرادة فإنه يقصي مثل شوبنهاور من مجال الفعل الإنساني الجمالي أو الأخلاقي، الرغبات والأهواء والميولات. لذلك يرى "نيتشه" أن الأخلاق الكانطية قد أقصت كل ما هو مادي، غريزي وحسي في الإنسان ولم تستطع أن تتحرر من صيرورة الزمن الذي يعيق انعتاقها من نمطيته.

    2- موقف سارتر: إرادة حرة

    رغم تأثير القول بحتمية الوجود البشري، فإن الإنسان لا يزال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله ليكون حرا ومسؤولا عن أفعاله. وتحاول جل المذاهب الفلسفية أن تعثر على مكامن هذه الحرية داخل الشخص بوصفه ذاتا ووعيا وقدرة على تجاوز وضعيته باستمرار. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن وعي الإنسان بالحتميات يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها، فالوجودية مثلا تؤسس على خاصية الوعي "أسبقية الوجود على الماهية"، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا بذاته ولذاته، مما يجعل وجوده مركبا لانهائيا من الاختيارات والإمكانات، فعلى عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبْلية، فإن الإنسان متخلص من مثل هذه الماهية المحددة سلفاً وإن كان لا يحيا إلا من خلال وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، فإنه يحتفظ لنفسه بإرادة الإبداع والتجاوز والإنجاز، يعبر عنها على الأقل بردود أفعاله واختياراته التي لا تحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للإمكان والحرية والفعل. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع خاص في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وهو ليس شيئا آخر غير ما يصنع هو بنفسه. 

    المحور الثالث: الحرية والقانون

    هل تتعارض الحرية مع القانون؟ أم أنه لا حرية إلا في إطار القوانين؟ هل بإمكاننا الجمع بين الحرية، بما هي إرادة واختيار، والقانون، بما هو إلزام؟ كيف نستسيغ أن يفقد الإنسان راضيا حريته المطلقة، ويقبل الخضوع لحكم القانون؟  ثم ألا يمكن أن يعثر الإنسان داخل الحرية المقننة، على ما هو أفضل له من العيش داخل الحرية المطلقة؟

     

    1-  الموقف التعاقدي: (هوبس، روسو، مونتسكيو...) 

    يميز طوماس هوبس بين نوعين من الحرية:

    -   حرية سائبة: وهي تلك الحرية التي كان يتمتع بها الفرد في حالة الطبيعة، قبل إنشاء الدولة وسن القوانين، حيث كان يعيش الناس ذئابا لبعضهم البعض، الكل يواجه الكل في  فوضى مُزرية، يستأثر القوي بحق الضعيف وفق قانون وحيد هو قانون الغاب الذي يخول للفرد أن يسود بموجب قوته وحيلته (حق القوة)، هذه الحرية المطلقة تكون مُهَددة لعدم وجود سلطة تحمي الحق من الانتهاك وتضمن الأمن والاستقرار... 

    -   حرية قانونية: تبدأ مع قيام الدولة وسن القوانين وتطبيقها في المجتمع على الجميع، إذ التشريعات المتعاقد عليها بين الأفراد هي التي تضمن للناس حرياتهم وتصون حقوقهم من الضياع. إن الغاية من وجود الدولة كما يقول سبينوزا هي الحرية، سواء كانت الحرية الفردية أو الجماعية، لكن في إطار القوانين والتشريعات المتعاقد عليها، وفي نفس الاتجاه يقول روسو: "لا حرية إلا في إطار القوانين" لكنها حرية مصونة وليست ممنوعة بحُجة الحفاظ على الاستقرار والسلم، وقد رد روسو ساخرا على من ادعى أن تقليص الحرية يهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن: نعم سنحصل على السلم والهدوء ولكنه هدوء المقابر ! ويقصد الاستقرار والجمود في ظل الاستبداد والقمع والكليانية، وليس في ظل الديمقراطية ودولة التعاقد الاجتماعي. ويقول مونتسكيو أيضا: "الحرية هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين" وليست هي الحرية المطلقة، أي أن الأفراد يتصرفون بمحض إرادتهم الحرة شريطة ألا يتجاوزوا حدود القانون الذي اتفقوا عليه كي يحيوا حياة مشتركة يتنازلون فيها عن حقهم المطلق فقط لصالح سلطة شرعية، ولا يجوز مطلقا للدولة أن تمنعهم من باقي الحقوق الفكرية والسياسية، أو أن ترغمهم على فعلِ أو قولِ مالا يرغبون فيه، مع العلم أن الحرية السياسية لا توجد إلا في الدول العادلة. 

    2-  موقف حنا أرندنت: الحرية السياسية 

    ليس المجال الذي عُرفت فيه الحرية دائما هو الإرادة والفكر كما كانت تدعي الفلسفة التي أخطأت لما حشرت مشكلة الحرية ضمن حقل مفاهيم الاختيار والإرادة والحتمية، وإنما هو المجال السياسي، أي فضاء الشأن العام الذي يشترك فيه جميع الناس، فالمجال الطبيعي للحرية ليس هو النفس البشرية أو الجانب السيكولوجي الفردي، وإنما هو مجال السياسة الذي نبرهن من خلاله على وجود الحرية أو عدم وجودها. تقول حنا: "إن الحرية بوصفها واقعا قابلا للبرهنة عليه، ترتبط بالسياسة ارتباطا تلازميا، وتشكلان معا وجهين لنفس الشيء"، هذا التحديد ضروري لنقل الإشكال من استحالة حله إلى مجالٍ ملموس يقدم عناصر واقعية تكشف زيف الادعاء الأنظمة الشمولية، تقول حنا: "تعمد هذه الأنظمة الاستبدادية إلى اعتقال رعاياها وحبسهم داخل بيوتهم الضيقة، مانعة بذلك ميلاد حياة عمومية، لا يمكن للحرية أن تتجلى بدونها، مستعملة من أجل ذلك الدعاية والايدولوجيا والتأطير المذهبي لتحول المواطن إلى مجرد رقم نكرة". 

    إن الحرية إذن هي حق يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمانه، ويحدد مجال التعايش الجماعي بمقتضاه وليس الإقصاء والنفي والتهميش. أما الحديث الفلسفي عن حرية داخلية (ذاتية)، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، حسب أرندت، مجالها الحقيقي والوحيد هو الحياة العمومية، لما توفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، "إننا نعي أولاً الحرية أو نقيضها عندما ندخل في علاقة مع غيرنا وليس في علاقة مع ذواتنا"، إنْ على مستوى التنقل أو التعبير أو التجمع أو غيرها، فتلك إذن هي الحرية الحقيقية والفعلية.  

    3-    جاكلين روس (انظر درس الدولة)

     ........لا حرية إلا في إطار دولة الحق التي تجعل محور وجودها هو "حفظ كرامة الشخص" وحريته، وتمارس سلطتها بطريقة معقلنة تفصل بين السُّلط وتطبق القانون على الجميع وتساوي بين المواطنين في ضمان الحقوق وحماية الحريات العامة والشخصية... 

     

    « مفهوم الواجب مفهوم الدستور »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق