-
مفهوم الحقيقة
مفهوم الحـقيـقـة
د. أحمد الفراك
تقديم:
تطلق كلمة حقيقة على عدة معاني متداولة اجتماعيا مثل الصدق، الحق، الواقع.. وتستعمل بشكل مكثف، وتحتفظ بحمولة سحرية في أذهان جميع الناس، إذ يرغب فيها الجميع ويستحسنونها لفظًا لكن الواقع يشهد بطمسها وتحريفها وتأويلها واستعمالها لأغراض ورغبات خاصة. فإن كانت "الحقيقة كلمة نبيلة" بتعبير مارتن هيدجر فإن ترجمتها إلى الواقع مهمة عويصة، تثير جملة من الإشكالات الفلسفية والعلمية والواقعية، نذكر منها:
1-- إذا كان هدف المعرفة هو بلوغ الحقيقة فكيف يتم الوصول إلى تلك الحقيقة؟ وما الفرق بين الحقيقة والرأي؟ وهل الحقيقة تُبنى أم تُعطى جاهزة؟
-2- ما هي معايير تمييز الحقيقة عن اللاحقيقة؟ ما الفرق بين الحقيقة وأضدادها: الكذب، الوهم...؟
3-- هل الحقيقة غاية أم وسيلة؟ لماذا نطلب الحقيقة؟ ما قيمتها؟ وما العمل إذا ما تعارضت الحقيقة مع المصلحة؟
المحور الأول: الحقيقة و الرأي
إذا كان العلم يراجع ذاته باستمرار قصد التخلص من أخطائه، وإذا كانت المعرفة تتقدم بفعل عوامل النقد والمراجعة والتجاوز، أفلا تحتاج الحقائق أيضا إلى المراجعة لتتخلص من الأوهام والآراء التي التصقت بها؟
1-- موقف رونيه ديكارت: ضرورة مراجعة الآراء السابقة
يرى رونيه ديكارت أن معارفنا وأفكارنا التي تلقيناها من المجتمع تحتوي على قدر كبير من الأخطاء، إلا أننا سلَّمنا بها واعتبرناها حقيقية وصادقة عبر التقليد والتلقين، وهي تحتاج إلى مراجعة ونقد يخلصها من تلك الأخطاء ويقيمها على أُسس صلبة، وطريقة هذا التخلص تتلخص في مبدأ الشك المنهجي العقلي الذي يتوجه إلى الأسس المعرفية من أجل تمحيصها بدقة، ثم إعادة بنائها من جديد. (مثال سلة التفاح)، وعملية الهدم وإعادة البناء تتطلب تحررا من كل القيود الحسية والفكرية التي تمنع من الانخراط في هذا الإنجاز. وفعل التوجه إلى الأسس يوفر على ديكارت ضياع الوقت والجهد في مراجعة الجزئيات، لهذا قرر رفض أية فكرة يعثر فيها على أدنى عنصر شك. وهذا واضح من قوله: "بما أن هدم الأسس يتلوه ضرورة انهيار بقية البناء كله، فإني سأوجه هدمي أولا إلى المبادئ المؤسِّسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة".
2-- موقف غاستون باشلار: الحقيقة العلمية تتعارض مع الرأي
الحقيقة العلمية حسب غاستون باشلار "خطأٌ تم تصحيحه"، أي أنه لا توجد حقيقة مطلقة موضوعية لا في العقل (خلاف ديكارت) ولا في التجربة (خلاف برنار)، إذ الحقيقة في العلم نسبية متطورة تقبل النقد والمراجعة باستمرار، لأنها قد تختلط بالظنون والأوهام والآراء والإديولوجيا، ورأي العالِم أخطر من رأي عامة الناس. معتبرا أن الآراء مجرد معرفة عامية تُشكل العائق الأساس في طريق العلم، فهي التي تمنع من الصياغة الجيدة للمعرفة العلمية، بل تُحرف مسار العلم أحياناً. يقول غاستون باشلار: "الرأي تفكير سَيِّء، بل إن الرأي لا يفكر البتة، فهو يترجم الحاجات إلى معارف، وبتعيين الأشياء حسب فائدتها يمتنع عن معرفتها"، إذ يتم إخضاع المعرفة العلمية للمنفعة والمصلحة. ويستنتج باشلار مما سبق أن المعرفة العلمية تُبنى ولا تُعطى جاهزة، وأن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه، فهو يتقدم باكتشاف الأخطاء وليس باكتشاف الحقائق. وأن وظيفة العقل العلمي هي إثارة المشاكل والأسئلة العلمية إذ لا جواب بلا سؤال...
المحور الثاني : معايير الحقيقة
كيف نستطيع التأكد من الحقيقة؟ كيف نُميزها عن غيرها؟ هل بعرضها على التجربة الحِسية أم بالبرهنة عليها عقليا؟
1--موقف باروخ اسبينوزا: الحقيقة معيار ذاتها
في كتابه "علم الأخلاق" يرفض اسبينوزا أن يكون معيار الحقيقة من خارجها، إذ مَن ذا الذي يكون دليلا ومعيارا على الحقيقة التي هي نورٌ يفرض ذاته على كل من رآه. إن الحقيقة تدع في نفوسنا يقينا بصحتها بشكل لا يقبل الشك ولا يحتاج إلى التبرير أو البرهان، إنها بداهة ثابتة غير قابلة للتكذيب مادامت كل فكرة صحيحة تحمل يقينها وصحتها في ذاتها. يقول اسبينوزا: "ما هو الشيء الذي يمكنه أن يكون أشد وضوحا وبداهة من الفكرة الصحيحة حتى يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار للخطأ"... نعرف الحقيقة بالحقيقة.
2-- موقف دافيد هيوم: الحقيقة العقلية والحقيقة التجريبية
على خلاف موقف سبينوزا يرى دافيد هيوم أن الأفكار التي يشتغل بها العقل البشري نوعان:
- الأفكار البسيطة؛ وهي تلك الأفكار التي تأتينا عن طريق الحواس مباشرة فتُنتج حقائق مادية حسية تجريبية واقعية.
- الأفكار المركبة؛ وهي الأفكار التي يُركبها العقل عن طريق الربط بين الأفكار البسيطة، مثل الأفكار الرياضية والهندسية والمنطقية (مثلا: الكل أكبر من الجزء، مجموع زوايا المثلث 180درجة...)، وتنتج حقائق عقلية صورية تجريدية.
إذن فالحقيقة حسب دافيد هيوم نمطان، حقيقة مادية ومعيارها التجربة الحسية (أي ملاءمتها لموضوعها في الواقع)، وحقيقة صورية عقلية ومعيارها العقل والبرهان (أي خُلُوُّها من التناقض). في هذا الاتجاه يقول ليبنيتز: "هناك نوعان من الحقائق، حقائق تتعلق بالاستدلال العقلي، وحقائق تتعلق بالوقائع. حقائق الاستدلال العقلي حقائق ضرورية ونقيضها غير ممكن بل مستحيل، والحقائق المتعلقة بالوقائع هي حقائق محتملة ونقيضها ممكن".
المحور الثالث : قيمة الحقيقة
لماذا نطلب الحقيقة؟ أنريدُها لذاتها أم لفائدتها؟ أو بعبارة أخرى: هل الحقيقة غاية أم وسيلة؟
1-- موقف ويليام جيمس: الحقيقي هو المفيد
يرى وليام جيمس أن قيمة الحقيقة ليست في ذاتها وإنما في مطابقتها للواقع، أي في ما تحققه من مصلحة ومنفعة فكرية أو مادية، ولا وجود لأية حقيقة متعالية ومعزولة عن مصالح الناس ورغباتهم، فهي مجرد وسيلة مرتبطة بطبيعة الحياة البشرية في تغيرها وصيرورتها، نستعملها من أجل بلوغ منافع واقعية عملية قابلة للقياس، يقول جيمس: "الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما"، فالحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، وبالتالي فهي تتحكم في الحقيقة بدورها وليس العكس، ذلك أن "امتلاك أفكار صحيحة صادقة يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل"، وكل ما لا يقبل التحقق وفق مبدأ "المصلحة فوق كل اعتبار" لا يصح أن نعيره أي اهتمام، لأنها حيث ما كانت المصلحة العملية فتمة الحقيقة، لذلك وكما نُنتج الأشياء لننتفع بها في حياتنا فإننا ننتج الحقائق والأفكار لأنها نافعة، ويُلخص ذلك بقوله: "الحقيقي هو المفيد".
غير أن دفاع ويليام جيمس عن هذا الموقف البراغماتي (النَّفعاني) سيؤدي إلى السقوط في النزعة الماكيافلية التي يلخصها المبدأ القائل: "الغاية تبرر الوسيلة"، وبناء عليه ينكر الفرد وترفض الجماعة كل حقيقة لا تقدم في شكل منفعة عملية قابلة للقياس، الأمر الذي سيحدث صراعا بين الذوات تبعا لتعارض المصالح وتضارب الغايات وابتذال الحقائق.
2-- موقف ايمانويل كانط: الحقيقة واجب أخلاقي
على النقيض تماما لما سبق يرى إيمانويل كانط أن: "قول الحقيقة أمرا واجبا أخلاقيا ...بعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات تطبيقه"، أي أنه من الواجب على الفرد مثلما على الجماعة والإنسانية جمعاء الامتثال لصوت الواجب الأخلاقي كالتزام كوني مطلق يفرضه العقل ويتعالى عن ميولاتنا وحاجاتنا وظروفنا ومصالحنا، يقول كانت: "الحقيقة واجب مطلق يسري في جميع الظروف والمناسبات". ومادامت الحقيقة غاية وليست وسيلة، فلا يجوز مثلا الكذب حتى ولو كان فيه عِتق رقبتنا من الموت، يقول كانط: "إن مَن يكذب مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه، وأن يؤدي ثمن موقفه كيفما كانت النتائج"، فإذا كان الكذب قد يحقق مصلحة ذاتية فإنه مفسدة للإنسانية جمعاء لأنه انتهاك لحق الصدق وجق الاحترام الكونيين، وإذا ما أخضعنا الحقائف لمزاجنا وأهوائنا فإن هذه الحقائق ستفقد معناها وقدسيتها وتنتقل من حكم الواجب المطلق إلى حكم المباح، بل ستصير مبتذلة وغير محترمة.
3-- موقف فريدريك نيتشه: الحقيقة وَهمٌ
ينفي نيتشه وجود الحقيقة أصلا ويعتبرها مجرد وهمٍ تسرب إلى أذهاننا عبر الزمن وفرَض صلابته عبر اللغة والتقليد، لتشكل حشدا من الاستعارات والتشبيهات والكنايات، ومن أجل حفظ العيش وضمان السلم في عالم محكومٍ بالصراع يُروج الناس الأوهام في شكل حقائق مقدسة. يقول نيتشه: "إن رغبة الإنسان في أن يعيش مع الآخرين داخل المجتمع، تدفعه إلى مسالمة الغير...ويصاحب حالة المسالمة هذه ما يشبه الخطوة الأولى نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة، أي أن استتباب السِّلم يتم معه تتبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة". وعند البحث في جذور مفهوم الحقيقة نجدها –في نظر نيتشه- مجرد أمعاء منتفخة بالريح لا تصمد عند أول ضربة بالمطرقة. لذلك يقول نيتشه: "الحقائق أوهامٌ نسينا أنها أوهام" وعاشت معنا هذه الأوهام لأنها صالحة للحياة ولا يمكن الاستغناء عنها بالنظر إلى نتائجها وليس بالنظر إلى ذاتها. فالناس لا يطلبون الحقيقة إلا ليحفظوا حياتهم وليس لأنها حقيقة، لذلك فهم يتوهمون كل ما يحفظ لهم الحياة حقيقة، والوهم أخطر من الخطأ لأن الخطأ يمكن تصحيحه أما الوهم فيصعب تصحيحه أو التراجع عنه.
-
تعليقات