• صدور كتاب المنطق عند الغزالي ومنهجه في التقريب والتشغيل

     

     

          صدر عن مطبعة جودة بالرباط كتاب المنطق عند الغزالي ومنهجه في التقريب والتشغيل” للدكتور أحمد الفراك، في 187 صفحة من الحجم المتوسط، ويتكون من مدخل تمهيدي، وفصل أول في مقومات المجال التداولي الإسلامي العربي، وفصل ثان في آليات التقريب التداولي للمعرفة الوافدة على الثقافة الإسلامية، وفصل ثالث في منهج التقريب والتشغيل للمنطق الأرسطي والرواقي في المجال التداولي الإسلامي العربي، وتطبيقاته في المادة الفقهية مع التمثيل لذلك. تناول فيه موضوع المنطق في الثقافة الإسلامية العربية من خلال تتبع منهجية الاشتغال بالمنطق عند أبي حاد الغزالي، أي طرائق نقل المنطق الأرسطي إلى المجال التداولي الإسلامي العربي وإعماله في إنتاج المعرفة الفقهية وتبليغها.

    جاء في مقدمته: “هذا الموضوع مثلما يجمع بين الدقة والأهمية يجمع أيضا بين الفائدة والجودة، وما دقته إلا بنظره في خصوصية النظر الإسلامي العربي في التراث المنطقي اليوناني، وما أهميته إلا بمحاولته تمييز أسلم وأنفع اتصالٍ تمَّ بين المجالين التداوليين، أما فائدته فتجدها في اقتراح أوضح وأشهر نقلٍ تمَّ من مجال تداولي إلى مجال مخالف، لتأتي جودته من تلك الآليات الدقيقة في مباشرة عمليات هذا النقل والتشغيل. إنه باختصار موضوع تشغيل المنطق في إنشاء العلم في الفكر الإسلامي العربي القديم”.

    وقد صرح الكاتب في مقدمة الكتاب بأن “اختيار هذا الموضوع لا يرد إلى الرغبة في مدح التراث الإسلامي العربي، وإبراز مكامن قوته وتفوقه مقارنة مع تراث غيره، ومن ثمة الدفاع عن الغزالي ضد منتقديه، أو نقده والتحامل عليه كما فعل الكثيرون ممن يحاكمون تراثهم إلى حاضر غيرهم، أي أننا لا نقصد إلى مدح منهج الغزالي ولا إلى نقضه، وإنما لالتماس المنهجية التي اشتغل بها آنذاك واستنتج من خلال إعمالها أحكاما تميز بها عن غيره من علماء ومتفلسفة المسلمين”.

     

     

         وقد عمل المؤلف على رد دعوى التناقض التي رمي بها الغزالي، معتبرا أنها “ليست شناعة في النسق الفكري عموما والمنطقي على وجه الخصوص، إنما هو خصوبة وقوة تعكس انفتاح متن الغزالي مبكرا، ومروره من انفراجات متفاوتة بعضها فوق بعض، أي بعضها أوسع من بعض، لذلك لا ينبغي “تنسيق” الغزالي، أي لا يستحسن أن ننظر إليه كنسق مغلق لم يتطور تعقله، خاصة ونحن نعلم أن تاريخ الفلسفة حافل بالظواهر الخطابية القائمة على التناقض، مثلما أن هناك حقلا من حقول المنطق يقر بالتناقض ويختص في النظر الفلسفي في مسائله، يدعى “المنطق غير الاتساقي” دون أن يفيد ذلك ترذيل التناقض أو تهميشه”.

    وفي الخاتمة قدم الكاتب الخلاصات الآتية:

    1. مقومات المجال التداولي الإسلامي العربي تتسع لا للمنطق الأرسطي وحده، بل لجميع ما ظهر ليومنا هذا من تشعبات المادة العلمية المنطقية (المنطق غير الصوري بكل فروعه) وغير المنطقية.
    2. ما كان يعترض به (الأدلة) على مشروعية المنطق قديما، لا يملك ألا يتهاوى أمام السلامة الانتمائية لهذا العلم من كل مذهب أو فلسفة. كما تتهاوى الاعتراضات الحديثة عندما تتصلب على التقليد المميت لكل إبداع.
    3. تقريب المنطق إلى العلوم الإسلامية زاده ثراء وخصوبة، لانفلاته من قبضة الإلهيات اليونانية، وكذلك يكون المنطق المعاصر إن تم تقريبه خدمة لمقومات المجال التداولي، اختصارا للقول بدل تطويله، وتشغيلا للاعتقاد بدل تعطيله، وتهوينا للفكر بدل تهويله.
    4. لما كان المنطق يبحث في التدليل، بل إن الحديث عن المنطق ينتقل إلى الحديث عن التدليل، فإنه لا مندوحة للمفكر والعالم والفيلسوف، بله الطالب والمتعلم والمسترشد، عن طلب هذا العلم، والتمكن منه قبل مباشرة أية عملية تقويمية أو تحقيقية.
    5. المنطق اليوناني مبني على “الصورنة” والتجريد النظري، وأن إخراجه إلى المجال التداولي الإسلامي يتطلب أن يسلك به مسلك التسديد العملي، حتى يُسمع ويَنفع.
    6. التقريب التشغيلي الذي قام به أبو حامد الغزالي –وإن كان مبالغا في تأصيله- جعل من المنطق علما نافعا وعملا عباديا يجري عليه ما يجري على باقي الأعمال العبادية من جزاء.
    7. يعتبر الغزالي المنطق حكمة عقلية بشرية لا تخص قوما دون قوم أو زمان سوى زمان أو مجال غير مجال، لذلك أرجع أصله إلى ما قبل اليونان، واستخرج مقاييسه وأمثلته من القرآن، وعمم العمل به على كل ميدان.

    -----------------------------------------------

    للتواصل:  Elfarrak@gmail.com


    تعليقك
  • مفهوم الحرية  
     
     
        إعداد: د أحمد الفراك

    تقديم:

    إذا كانت الحرية هي التخلص من الحتمية، أي غياب الإكراه والحرمان على جميع المستويات الاجتماعية والسياسية والنفسية، فهل يستطيع الإنسان أن يحيا حريته الفعلية ويتخلص من إكراه الحتميات الموضوعية التي تشرط وجوده؟ أم أنه يتعايش مع الحتمية والحرية معا؟ وهل تتجاوز إرادته الإرادة الكونية الصارمة أم تقف عند حدود الوعي بها ومواتاتها؟ وما علاقة الحرية بالقانون الذي ينظم المجتمع؟ وهل بوجود الدولة تتحقق الحرية أم تتعطل؟ 

    المحور الأول: الحرية والحتمية

    موقف باروخ اسبينوزا: لا حرية للشخص 

    انسجاما مع التصور الموضوعي الذي يعتبر الإنسان مجرد انعكاس ونتيجة لإكراهات وضغوط موضوعية متنوعة: بيولوجية، اجتماعية، وراثية، ثقافية، اقتصادية وسياسية، يرى باروخ اسبينوزا أن الشخص ليس ذاتا حرة، بل هو نتيجة ضرورات وحتميات خارجية، حيث شَبَّه دعوى حرية الإنسان بدعوى حرية حَجرة متحركة بسببٍ مفروض من الخارج هو الذي تُنسب له مسؤولية الفعل وليس الحجرة، أي بفعل قوة مُحرِّكة وليس اختيارا من ذاتها. أما الذين يتبجحون بامتلاك الحرية فهم – حسب اسبينوزا- فقط يعون شهواتهم ويجهلون الأسباب الخارجية التي تحددهم حتميا. وإلا هل يُقبل أن نعتبر الطفل الذي يبكي طلبا للطعام حُرا في طلبه أو الرعديد الذي يفر من المواجهة حرا في هروبه؟ بالإضافة إلى أننا غالبا ما نعرف الأحسن ونرتكب الأسوأ.

    موقف العلوم الإنسانية: تذويب الإنسان في حتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته 

    بانفصالها عن الفلسفة خلال النصف الثاني من القرن 19 توجهت العلوم الإنسانية إلى دراسة الإنسان فجعلت منه موضوعا للمعرفة بعدما كان ذاتا عارفة، وفضحت ضُعفه لما اكتشفت أنه مجرد صورة منعكسة عن المحددات الموضوعية المحيطة به، فهو عند علماء السوسيولوجيا (جي روشيه Guy Rocher) جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، أي أنه نتيجة حتمية لعمليات التنشئة الاجتماعية التي تُلقنه كيفية الإحساس والتفكير والتصرف وتُدمجه في مؤسسات المجتمع لتتشكل هويته النفسية والاجتماعية والمزاجية عبر آليات: التكيُّف والتقمص والاكتساب والقولبة الذهنية، حتى يصير الأنا قطعة من "النحن"، وهو عند علماء الاقتصاد (على الأقل في التصور الماركسي) جزء من البنية المادية للمجتمع تصنعه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وإذا فكر أو عبَّر فإنما يفكر ويعبر انطلاقا من واقعه الذي يعيش فيه، وهكذا باقي فروع العلوم الإنسانية (اللغة، علم النفس، البيولوجيا، التاريخ...) حتى أضحى الإنسان شبحاً بلا معنى، وآلة تُشحن وتُستعمل، فانمحت هيبته وكأنه كان مرسوما من الرمال (حسب تعبير ميشيل فوكو)، وظهرت أصوات تعبر عن هذا الذوبان والاختفاء بمثل عبارة "موت الإنسان" التي تلخص فقدانه لتلك الهالة من التحرر التي كان يَدَّعيها ويزعُمها لما قيل عنه "الإنسان مقياس كل شيء" قبل أن تُنتزع منه ويفقد سمعته.

     

    موقف سارتر: الإنسان محكوم عليه بالحرية

    على خلاف المواقف السابقة يؤكد سارتر أن الإنسان كائن يصنع ذاته بذاته، يعيش بذاته ولذاته، ذاتٌ حرة ومنفتحة على إمكانيات لا نهائية، لأن هويته لا تتحدد بشكل مسبق وإنما بالمشروع الذي يختاره هو لنفسه في المستقبل، حيث يوجد أولا ثم يكون إنسانا فيما بعد بواسطة الأنشطة التي يمارسها مادام وجوده سابق لماهيته، فيختار مثلا بمحض إرادته الانتساب إلى أحد الأحزاب أو تأليف كتاب أو الزواج، إنه الكائن الوحيد الذي يتميز بالتعالي على وضعيته الأصلية وهو مسئول مسؤولية كاملة عما هو كائن، إذ بواسطة الفعل والحركة يستطيع أن يختار ماهيته بنفسه فيصنع الرجل الذي يريده، وبالتالي مشروعه الذي يريد، يقول سارتر: "الإنسان مشروعٌ لا يوجد في سماء المشروعات مشروع مثله". لهذا انتقد المنهج الذي يختزل الإنسان في بُعد واحد مطلق، لأنه  يغفل  أبعاد حقيقية أخرى تحدد ماهيته، ويدافع سارتر عن حرية الإنسان لكونها تشكل جوهر وجوده وأساس الغايات من هذا الوجود، وبناء على حريته يتحمل مسؤولية أفعاله، يقول سارتر "إن البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يصنع من نفسه جبانا"، وهذا لا يعني غياب الضرورات الموضوعية كُلية وإنما يعني أن الإنسان يحتفظ بالقدرة على التجاوز لوضعه وصناعة الذات وإثبات الحرية مهما كانت الظروف والإكراهات، أو بعبارته المختزلة لموقفه: "الإنسان محكوم عليه بالحرية".

    موقف محمد بن رشد : الحرية في مواتاة الأسباب الداخلية والخارجية

     

    ردا على التصورين المتناقضين بين القول بالحرية (القدَرية) والقول بالحتمية (الجبرية)، يرى ابن رشد أن الله تعالى خلق فينا القدرة على اكتساب أشياء هي أضداد، أي منح الإنسانَ الحرية في الاختيار بين فعل الخير وفعل الشر، ليكون قادرا على اختيار أفعاله إذ على اختياره الإرادي تترتب مسؤوليته على تلك الأفعال، لكن حريته كما يؤكد ابن رشد نسبية رهينة بضرورة مواتاة الأسباب الداخلية (قدرات الفرد البدنية) والأسباب الخارجية (نظام الكون) التي تجري على نظامٍ محدود ومُقدر يستحيل إلغاؤه أو تجاهله، حيث يقول: "إن الله تبارك وتعالى قد خلق لنا قوى نَقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعا"، أي بالحرية والخضوع للأقدار الكونية في نفس الوقت، وليست فقط الأسباب الخارجية هي التي تحد حرية الفرد بل أيضا الأسباب الداخلية أي حدود قدرة البدن. لتكون الحرية الإنسانية مشروطة بالحتميتين : قوانين الكون وقوة الجسم.

      

    المحور الثاني: الحرية والإرادة

       هل يمكننا الحديث عن إرادة حرة؟ وما هي درجة تحكم إرادتنا في حياتنا؟ وهل نحن مسؤولون عن أفعالنا أم مضطرون إليها؟

    1 - موقف إيمانويل كانط: إرادة عاقلة

     يقول كانط: "الحرية خاصية لإرادة جميع الكائنات العاقلة"، أي انفراد الإنسان بالعقل هو ما يوفر له إمكان امتلاك حرية الإرادة للقيام بكل فعل أخلاقي، فالمجال الذي تمارس فيه الإرادة الحرة فعلها هو مجال الواجب. ذلك أن الإنسان يستطيع ككائن عاقل، أن يعتمد على إرادته الحرة في وضع القواعد العقلية للفعل الإنساني. وعندما يخضع الإنسان لهذه القواعد ويؤدي الواجب فإنه يمارس حريته. أي أن ممارسة الحرية تنسجم مع القيام بالواجب الأخلاقي، فيكون الشخص حرا عندما يُخضع إرادته للأمر الأخلاقي. وعند تحدث كانط على حرية الإرادة فإنه يقصي مثل شوبنهاور من مجال الفعل الإنساني الجمالي أو الأخلاقي، الرغبات والأهواء والميولات. لذلك يرى "نيتشه" أن الأخلاق الكانطية قد أقصت كل ما هو مادي، غريزي وحسي في الإنسان ولم تستطع أن تتحرر من صيرورة الزمن الذي يعيق انعتاقها من نمطيته.

    2- موقف سارتر: إرادة حرة

    رغم تأثير القول بحتمية الوجود البشري، فإن الإنسان لا يزال يقنع نفسه بأن له شيئا يفعله، شيئا يبقى عليه أن يفعله ليكون حرا ومسؤولا عن أفعاله. وتحاول جل المذاهب الفلسفية أن تعثر على مكامن هذه الحرية داخل الشخص بوصفه ذاتا ووعيا وقدرة على تجاوز وضعيته باستمرار. وفي هذا الإطار يمكن القول بأن وعي الإنسان بالحتميات يمثل خطوة أولى على طريق التحرر من تأثيرها، فالوجودية مثلا تؤسس على خاصية الوعي "أسبقية الوجود على الماهية"، لأن الإنسان ليس وجودا في ذاته كالأشياء، بل وجودا بذاته ولذاته، مما يجعل وجوده مركبا لانهائيا من الاختيارات والإمكانات، فعلى عكس الطاولة أو الشبل اللذان يتحدد نمط وجودهما بشكل خطي انطلاقا من ماهيتهما القبْلية، فإن الإنسان متخلص من مثل هذه الماهية المحددة سلفاً وإن كان لا يحيا إلا من خلال وضعية محددة اجتماعيا وتاريخيا، فإنه يحتفظ لنفسه بإرادة الإبداع والتجاوز والإنجاز، يعبر عنها على الأقل بردود أفعاله واختياراته التي لا تحددها هذه الشروط الموضوعية وحدها، بل وأيضا المعنى الذاتي الذي يفهم بموجبه هذه الشروط والأوضاع مما يفسح مجالا واسعا للإمكان والحرية والفعل. من هنا نفهم تصريح سارتر بأن الإنسان مشروع خاص في سماء الممكنات، محكوم عليه بأن يكون حرا، وهو ليس شيئا آخر غير ما يصنع هو بنفسه. 

    المحور الثالث: الحرية والقانون

    هل تتعارض الحرية مع القانون؟ أم أنه لا حرية إلا في إطار القوانين؟ هل بإمكاننا الجمع بين الحرية، بما هي إرادة واختيار، والقانون، بما هو إلزام؟ كيف نستسيغ أن يفقد الإنسان راضيا حريته المطلقة، ويقبل الخضوع لحكم القانون؟  ثم ألا يمكن أن يعثر الإنسان داخل الحرية المقننة، على ما هو أفضل له من العيش داخل الحرية المطلقة؟

     

    1-  الموقف التعاقدي: (هوبس، روسو، مونتسكيو...) 

    يميز طوماس هوبس بين نوعين من الحرية:

    -   حرية سائبة: وهي تلك الحرية التي كان يتمتع بها الفرد في حالة الطبيعة، قبل إنشاء الدولة وسن القوانين، حيث كان يعيش الناس ذئابا لبعضهم البعض، الكل يواجه الكل في  فوضى مُزرية، يستأثر القوي بحق الضعيف وفق قانون وحيد هو قانون الغاب الذي يخول للفرد أن يسود بموجب قوته وحيلته (حق القوة)، هذه الحرية المطلقة تكون مُهَددة لعدم وجود سلطة تحمي الحق من الانتهاك وتضمن الأمن والاستقرار... 

    -   حرية قانونية: تبدأ مع قيام الدولة وسن القوانين وتطبيقها في المجتمع على الجميع، إذ التشريعات المتعاقد عليها بين الأفراد هي التي تضمن للناس حرياتهم وتصون حقوقهم من الضياع. إن الغاية من وجود الدولة كما يقول سبينوزا هي الحرية، سواء كانت الحرية الفردية أو الجماعية، لكن في إطار القوانين والتشريعات المتعاقد عليها، وفي نفس الاتجاه يقول روسو: "لا حرية إلا في إطار القوانين" لكنها حرية مصونة وليست ممنوعة بحُجة الحفاظ على الاستقرار والسلم، وقد رد روسو ساخرا على من ادعى أن تقليص الحرية يهدف إلى الحفاظ على السلم والأمن: نعم سنحصل على السلم والهدوء ولكنه هدوء المقابر ! ويقصد الاستقرار والجمود في ظل الاستبداد والقمع والكليانية، وليس في ظل الديمقراطية ودولة التعاقد الاجتماعي. ويقول مونتسكيو أيضا: "الحرية هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين" وليست هي الحرية المطلقة، أي أن الأفراد يتصرفون بمحض إرادتهم الحرة شريطة ألا يتجاوزوا حدود القانون الذي اتفقوا عليه كي يحيوا حياة مشتركة يتنازلون فيها عن حقهم المطلق فقط لصالح سلطة شرعية، ولا يجوز مطلقا للدولة أن تمنعهم من باقي الحقوق الفكرية والسياسية، أو أن ترغمهم على فعلِ أو قولِ مالا يرغبون فيه، مع العلم أن الحرية السياسية لا توجد إلا في الدول العادلة. 

    2-  موقف حنا أرندنت: الحرية السياسية 

    ليس المجال الذي عُرفت فيه الحرية دائما هو الإرادة والفكر كما كانت تدعي الفلسفة التي أخطأت لما حشرت مشكلة الحرية ضمن حقل مفاهيم الاختيار والإرادة والحتمية، وإنما هو المجال السياسي، أي فضاء الشأن العام الذي يشترك فيه جميع الناس، فالمجال الطبيعي للحرية ليس هو النفس البشرية أو الجانب السيكولوجي الفردي، وإنما هو مجال السياسة الذي نبرهن من خلاله على وجود الحرية أو عدم وجودها. تقول حنا: "إن الحرية بوصفها واقعا قابلا للبرهنة عليه، ترتبط بالسياسة ارتباطا تلازميا، وتشكلان معا وجهين لنفس الشيء"، هذا التحديد ضروري لنقل الإشكال من استحالة حله إلى مجالٍ ملموس يقدم عناصر واقعية تكشف زيف الادعاء الأنظمة الشمولية، تقول حنا: "تعمد هذه الأنظمة الاستبدادية إلى اعتقال رعاياها وحبسهم داخل بيوتهم الضيقة، مانعة بذلك ميلاد حياة عمومية، لا يمكن للحرية أن تتجلى بدونها، مستعملة من أجل ذلك الدعاية والايدولوجيا والتأطير المذهبي لتحول المواطن إلى مجرد رقم نكرة". 

    إن الحرية إذن هي حق يشترك فيه جميع الناس، يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمانه، ويحدد مجال التعايش الجماعي بمقتضاه وليس الإقصاء والنفي والتهميش. أما الحديث الفلسفي عن حرية داخلية (ذاتية)، فهو حديث ملتبس وغير واضح. إن الحرية، حسب أرندت، مجالها الحقيقي والوحيد هو الحياة العمومية، لما توفره من إمكانات الفعل والكلام، والحرية بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس إلا عندما يحتك الفرد بالآخرين، "إننا نعي أولاً الحرية أو نقيضها عندما ندخل في علاقة مع غيرنا وليس في علاقة مع ذواتنا"، إنْ على مستوى التنقل أو التعبير أو التجمع أو غيرها، فتلك إذن هي الحرية الحقيقية والفعلية.  

    3-    جاكلين روس (انظر درس الدولة)

     ........لا حرية إلا في إطار دولة الحق التي تجعل محور وجودها هو "حفظ كرامة الشخص" وحريته، وتمارس سلطتها بطريقة معقلنة تفصل بين السُّلط وتطبق القانون على الجميع وتساوي بين المواطنين في ضمان الحقوق وحماية الحريات العامة والشخصية... 

     


    تعليقك
  •       مفهوم الواجب     
     بقلم: د. أحمـَد الفـرَّاك

    تقديم: 

    في مبحث الأخلاق بوصفه مبحثا معياريا يبرز مفهوم الواجب الذي هو في الأصل التزام أخلاقي خال من إكراه الغير، يختاره الفرد أو تختاره الجماعة دون أن يكون مفروضا من الخارج، ومن غير أن يترتب على الإلتزام به أي لوم أو عقاب، وإلا كان إكراها أو تهديدا. فهو إذن اختيار عقلي متحرر من قبضة الأهواء والإلزامات، لكن الواقع يشهد بأن أغلب الواجبات تكون قهرية مُلزِمة. فما علاقة الواجب بالإكراه؟ وهل الواجب إلزام أم رغبة؟ وهل الخضوع للواجب نابع من الضمير الأخلاقي أم من ضغط القاعدة القانونية أم من اللاشعور؟ وهل مصدر الواجب وعي داخلي تلقائي أم وعي خارجي يفرضه الوضع المجتمعي؟ وكيف تتفق كونية الواجب مع نسبية القوانين والأعراف؟ وما علاقة الواجب بالمجتمع؟ وأيهما يصنع الآخر؟

    المحور الأول: الواجب والإكراه

    هل الواجب رغبة أم إكراه؟ هل يختاره الفرد بمحض إرادته العاقلة أم يتقبله كإلزام براني؟ هل نختاره أم يُفرض علينا؟

    1- موقف كانط: الواجب إلزام 

    الواجب حسب كانط أمر أخلاقي نموذجي متعالي عن المصلحة والمنفعة والرغبة، مفروض على النفس والإرادة كرها من طرف العقل، ويحول دون خضوعها لميولات النفس، يقول كانط: "الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس العقل إكراها عليها، وهذا الإكراه هو الأمر الأخلاقي"، الذي لا يراعي في وجوبه النتائج المنتظرة منه أي ليس أمرا أخلاقيا شرطيا، وإنما هو أمر أخلاقي مطلق، ولا يحمل معه أية لذة، بل يحمل الألم، ورغم تقديسه كفعل بديهي وغائي، يفرض إلزاميته وكونيته وشموليته. لذلك على الفرد أن يتصرف وكأنه الإرادة المشرِّعة، وأن يكون تصرفه كأنه قاعدة كونية شاملة، فيعامل نفسه كما يعامل الإنسانية جمعاء باعتبارها غاية وليست وسيلة لتحقيق رغبة معينة. أو قُلْ بعبارة مختصرة: لا غاية للواجب إلا الواجب نفسه ...

    2- موقف دوركهايم: الواجب إلزام ورغبة  

    يرى دوركايم أن التحديد الكانطي لمفهوم الواجب يحتاج إلى مراجعة، إذ الواجب الأخلاقي إلزامي من جهة، لكنه أيضا صادر عن رغبة محددة من جهة ثانية، ف "لا نستطيع أن نقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منا القيام به أو لأننا مأمورون به"، بل "يتعين أن تكون الغاية الأخلاقية التي نسعى إليها مرغوب فيها"، أي أن الواجب يتأسس على ركنين متداخلين لا ينبغي الفصل بينهما، وهما الإلزام العقلي الذي تحدث عنه كانط، والرغبة التي تستحسن الواجب وتوفر له عناصر المتعة واللذة والخيرية. فلا نمارس الفعل الأخلاقي لأنه واجب إلزامي فحسب بل لأننا نميل إليه ونستحسنه، إذ "هناك نوع من التداخل بين الواجب والخير واللذة في كل الحياة الأخلاقية".

     

    المحور الثاني: الوعي الأخلاقي

    ما مصدر الواجب؟ ومن أين ينبع الوعي الأخلاقي؟ هل هو فطرة الفرد أم الأنا الأعلى أم تنشئته الاجتماعية؟

     

    1- موقف ج. ج. روسو: الوعي الأخلاقي غريزة فطرية 

    الوعي الأخلاقي حسب روسو "مبدأ فطري للعدالة والفضيلة" يولد مع الإنسان غريزة إلهية خالدة وصوتا سماويا مُرشدا، ولا تمنحه له أية جهة فيما بعد، أو بتعبير آخر: الوعي شعور داخلي غريزي صائب على أساسه نُقوِّم سلوكات الذات وسلوكات الغير، فنستحسن منها ونستقبح، أما أفعال الوعي فهي ليست أفكارا وإنما هي عبارة عن أحاسيس مناسبة للطبيعة الإنسانية تمُكننا من اتخاذ معايير محددة للحُكم على نمط علاقتنا بالأشياء وبالناس، ثم تقويمها، إذ بالوعي الأخلاقي الذي يتفوق به الإنسان على البهائم تُوفَّر لنا القدرة على التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل وبين الصدق والكذب...إلخ

    2- موقف س. فرويد: الوعي الأخلاقي و الأنا الأعلى 

    ليس الوعي الأخلاقي كيانا فطريا داخليا ومستقلا، بل هو جزء لا يتجزأ من محددات البنية النفسية والاجتماعية للفرد، ويشكل بالضبط إحدى وظائف جهاز الأنا الأعلى المتمثلة في "مراقبة أفعال ومقاصد الأنا والحُكم عليها" انطلاقا من مجموع القواعد التربوية والأخلاقية التي رسختها قيم الجماعة في ضمير الفرد (دين، أخلاق، أعراف، قوانين...)، إذ الضمير الأخلاقي لا يتشكل إلا بعد تشكل الأنا الأعلى نتيجة احتكاك الأنا مع المجتمع، يقول فرويد: "إن الإحساس بالذنب، وقساوة الأنا الأعلى، وصرامة الضمير الأخلاقي، كلّها شيء واحد. إن الإحساس بالذنب هو تعبير عن إدراك الأنا لكونه خاضعا للمراقبة من طرف الأنا الأعلى"، فالواجب تجسيد لقيم الجماعة في سلوك الفرد وليس غريزيا.

     

     

    المحور الثالث: الواجب والمجتمع

     

    ما علاقة الواجب بالهوية المجتمعية؟ وهل يقتصر الواجب الأخلاقي على فردانية الذات أم يتجاوزها إلى ضمير المجتمع؟

    يتفق علماء السوسيولوجيا على أن المصدر الأساس للواجب الأخلاقي هو التنشئة الاجتماعية، التي تؤثت وعي الفرد وتُكيفه بطريقة تُصيِّره مندمجا اندماجا كليا أو جزئيا مع قيم الجماعة. يقول دوركايم: "ضميرنا الأخلاقي لم يَنتُج إلا عن المجتمع ولا يُعبِّر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا".

     

    1-   موقف ماكس فيبر: واجب الاقتناع وواجب المسؤولية

    يميز فيبر في الواجب الأخلاقي بين مبدأين متعارضين: مبدأ الاقتناع ومبدأ المسؤولية، إذ من الناس من يتصرف بأخلاق الاقتناع ومنهم من يتصرف وفق أخلاق المسؤولية، الأول ينجز الفعل دون أن يتعلق بالنتائج سواء أكانت إيجابية أو سلبية، وتنتج عن هذا المبدأ أخلاق التملص من المسؤولية، حيث ينسب صاحبه الإخفاق والفشل والخطأ إلى الظروف الخارجة عن الذات وإلى حماقة البشر وإلى مشيئة الله. والثاني يخطط ويتابع إنجاز الفعل إلى نهايته ويحرص على نجاحه مثلما يخشى الإخفاق أو الفشل، ويعترف بمسؤوليته في حالة عدم التوفيق، وهذا المبدأ يُنمي أخلاق المسؤولية والمساءلة الفردية على الأفعال والاختيارات، ويُجَنِّب إلقاء اللوم خارج الذات الفاعلة.

     

    2-  موقف جون راولس: الواجب نحوالمجتمع القادم 

    يشير راولس إلى نوع خاص من أنواع الواجب، وهو الواجب نحو المستقبل، أي اتُّجاه سكان العالم القادمين، حيث يجب التفكير في تضامن الجيل الحالي مع الأجيال القادمة على أساس مبدأ العدالة العابرة للأجيال، أي "على مبدأ توفيرٍ يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحق من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه"، الأمر الذي يفرض إحداث عدالة مؤسساتية مشتركة تسهر عل التوزيع العادل للثروة بين الأجيال المتعاقبة في الزمان والمكان.. وهو الموقف الذي يتعارض مع موقف كانط الذي لا يستسيغ استفادة الجيل القادم مجانا من  أعباء وعناء الجيل الحالي !

    وسواء أكان الواجب اختياريا أم اضطراريا، صادرا عن وعي فطري أو عن اللاوعي، يتجه نحو الذات أو صوب المجتمع، أنتجَ المجتمع أم أن المجتمع هو الذي أنتجه، فإن "أصعب ما في الواجب هو القيام به" كما يقول ألان.

     ------------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     


    1 تعليق
  • الحق والعدالة     
         إعداد: د. أحمد الفرَّاك

     

    تقديم

    إذا كانت الدولة تقوم بتنظيم علاقات وتفاعلات الأفراد فيما بينهم داخليا وفيما بينهم وبين غيرهم خارجيا، فإن هذا التنظيم يتأسس على جملة من المعايير الأخلاقية والقواعد القانونية. الغاية منها هي حفظ الحقوق الفردية والجماعية واستتباب العدالة. إلا أن العلاقة بين الحق والعدالة ظلت ملتبسة وغير واضحة مما يستدعي طرح الإشكاليات المتعلقة بمشروعية قواعد الحق كما يلي:

    * ما مصدر الحق؟ هل الحق مُعطى فطري وُلد مع الإنسان، أم أنه مَكسب ثقافي أدركه الناس بفضل التطور الاجتماعي؟ هل الحق طبيعي سابق على ظهور الدولة أم أنه وضعي من نتاجها؟

    * إلى أي حد تكون العدالة أساس الحق؟ وهل تكفي العدالة القانونية لحفظ الحق؟

    * أيهما تستهدفه العدالة: المساواة أم الإنصاف؟ التسوية بين الجميع مهما يكن من اختلاف أم إعطاء كل ذي حق حقه؟

     

    المحور الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي

    1- موقف طوماس هوبس: الحق طبيعي

    يتأسس الحق في نظر هوبس على ما هو طبيعي مرتبط بماهية الإنسان، وهو ما يجب أن يمتلكه ويتمتع به كل فرد بحُكم طبيعته الأصلية وليس بحكم ثقافته وانخراطه الطوعي أو الكرهي في المجتمع والدولة، والفرق بين الحق والقانون حسب هوبس هو "أن الحق يكمن في حرية القيام بفعلٍ ما أو الامتناع عنه، في حين أن القانون يُقرِّر أحدهما ويُلزِمنا به، بحيث يختلف القانون عن الحق كما يختلف الإلزام عن الحرية، ويُمثلان طرفي نقيض"، أما الحاجة إلى الدولة فهي ليست وضع الحق وإنما الحفاظ عليه وضمان استمراره وصونه من الضياع، مع الحرص على عدم العودة إلى حالة الحرب المزرية، حالة "حرب الكُل ضد الكل" التي كان يعيش بموجبها الإنسان ذئبا لأخيه الإنسان، لا يحكمه إلا قانون واحد ووحيد هو قانون الغاب: البقاء للأقوى، وليس له سوى حق وحيد هو "حق القوة".

    2- موقف جون جاك روسو: الحق يسنُده القانون الوضعي

     أساس سلطة الدولة هو التعاقد الاجتماعي، ووظيفة هذا التعاقد هي حماية الحق، وأساس الحق هو الطبيعة البشرية على ما خلقها الله ابتداء، يقول روسو: "إن ما هو جيد وموافق للنظام هو كذلك بحُكم طبيعة الأشياء، وبمعزلٍ عن الاتفاقات بين الناس. إن كل عدالة تأتي من الله الذي هو مصدرها الوحيد"، لكن الإنسان لم يحسن استقبالها من الله لأنه حيوان فاسد من جهة ولغياب عقاب طبيعي من جهة ثانية، مما يستوجب ضرورة سن القوانين ووضع التشريعات التي تضمن حفظ الحق وإقرار العدالة. وبالتالي فالحق هو تلك الامتيازات التي كان يملكها الإنسان قبل تأسيس الدولة التعاقدية، وجاء القانون ليُقرها ويوجبها ويفرضها عبر مؤسسات الدولة، مما يفيد وجوب وضع القوانين لضمان الحق وتجسيد القاعدة التي تقول: "لا يوجد شخص فوق القانون"، حيث لا يمكن أن يستغني الحق عن القانون و"لا يوجد عدل في ذاته، بل العدل هو التعاقد".

    3- موقف هانز كلسين: الحق وضعي (ومتغير)

    على خلاف تصور هوبز، يرى أصحاب الاتجاه الوضعي (ومنهم هانز كلسين) أن العدل والحق لا معنى لهما إلا في نطاق القواعد القانونية الوضعية، ولا عدالة إلا ما يضمنها الدستور، إذ القانون وحده يُحدد ما هو مشروع وما هو غير مشروع، وهو وحده إلى جانب المؤسسات القضائية والتنفيدية يشكل قوة الإلزام والنظام الضرورية لإنشاء الحقوق وحفظها في الواقع ومعاقبة الخارجين عنها. والحق القائم ليس إلا تعبيراً عن ميزان القوى في  بنية الدولة، وهو مُعَرَّض للتغير والتبدل تبعا للتوازانات الواقعة في ميزان القوى المسيطرة في المجتمع، وخلاصة الموقف: "لا حق إلا ما يحميه القانون".

    المحور الثاني: العـدالة أساس الحـق

    يقوم الحق على العدالة، فأية عدالة تضمن لنا الحق؟ هل هي عدالة القانون أم عدالة الأخلاق؟

    1- موقف أرسطو: العدل أساس الحق

    العدالة عند أرسطو هي سلوك عادل "يوافق القانون ويكفُل المساواة"، ونقيضها الظلم الذي هو "سلوك لاقانوني ومُنافي للمساواة"، فالرجل العادل هو الذي يُطبق القانون ويخضع له في إطار المساواة والوسطية بــ"لا إفراط ولا تفريط"، وجميع فضائل المجتمع تتأسس على فضيلة العدل، يقول أرسطو: "كل الفضائل توجد في طَيِّ العدل"، ولإيجاد حياة مِلؤها العدالة باعتبارها "فضيلة كاملة" وَجب الخضوع للقوانين الأخلاقية من أجل الحفاظ على المصالح العامة، وذلك عبر ضمان العدالة بنوعيها:

    أ- العدالة التوزيعية: أي توزيع الثروات بين المواطنين بحسب مؤهلاتهم...

    ب- العدالة التعويضية: وتعني تعويض الأفراد الذين لحقتهم بعض الأضرار من طرف الدولة بسبب خرق القانون أو عدم تطبيقه.

    2- موقف باروخ سبينوزا: العدالة القانونية هي التي تضمن الحق

    إذا كانت الغاية من الدولة هي تخليص الناس من سيطرة الشهوة العمياء وتحقيق مبدأ التعايش الآمن والسِّلمي، فإنه "على عاتق الحاكم وحده تقع مهمة المحافظة على هذا المبدأ" مادام القانون يُبيح له أن يفعل ما يشاء دون أن ينتهك حق الرعية، وإذا كان "العدل هو استعداد دائم للفرد لأن يعطي كل ذي حقٍّ ما يستحقه طِبقا للقانون المدني، والظلم هو أن يَسلب شخص متذرعا بالقانون (باسم القانون) ما يستحقه شخص آخر طبقا للتفسير الصحيح للقوانين"، فإن مهمة إحقاق العدالة تقع على عاتق الدولة، وذلك عبر سَنِّها لمختلف القوانين والتشريعات التي تُلزم الجميع باحترام قواعد العدالة والخضوع لمقتضياتها للتمتع بالحريات الفردية والجماعية، فهي وحدها (الدولة) تملك القدرة والسلطة على وضع القانون وعلى تنفيذه بالمساواة بين الناس. وعلى الفرد أيضا أن يتخلص من الحقد والانتقام ونية إلحاق الضرر بالغير، وبناء عليه لا يتحقق العدل إلا بالعدالة القانونية التي تفرضها الدولة العادلة ويخضع لها الفرد.

    3- موقف شيشرون: العدالة القانونية وحدها لا تكفي...

    إذا ركزت المواقف السابقة على ربط العدالة بالقانون فإن الواقع يشهد حسب موقف شيشرون بعدم كفاية القانون لإقرار العدل في المجتمع، إذ ليس كل ماهو قانوني حق، وليس كُل حق تكفلُه القوانين الوضعية، إذ قد نجد تشريعات قانونية ظالمة كقانون الطغاة وقانون الاستعمار مثلا، ثم أن الحق الأمثل الذي تنشده الإرادة البشرية لم يستطع القانون أن يضمنه فضلا عن أن يحميه. مما يفضح قزمية القانون مقارنة مع هيبة الحق، لهذا يرى شيشرون أن الحق طبيعي ينبع من داخل الإنسان، ومرتبط بعالم الفضيلة ومتعالي عن عالم المواضعة والإلزام، ويُرد في النهاية إلى حق واحد يقوم على قانون واحد يُشرِّع ما يجب وما يُمنع طِبقا لمقتضيات طبيعة الإنسان الداخلية، و"لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة...وطالما لم يقم الحق على ما هو طبيعي فإن جميع الفضائل ستتلاشى". 

    وأخيرا يمكن القول مع إريك فايل: "إن الحق والقانون والعدالة هي ألفاظ لا تحصل على معناها إلا داخل جماعة ما، فالجماعة وحدها هي ما يمكن أن تكون عادلة أو غير عادلة".

    المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف

    1- موقف أفلاطون: العدالة انسجام

    تتحدد العدالة في تصور أفلاطون كفضيلة يتحقق بواسطتها الانسجام والتوازن بين القوى المتنافرة عند الفرد وعند المجتمع، فعلى مستوى الفرد تعني العدالة ذلك النظام والتوافق بين مكونات النفس الثلاث (القوة العاقلة، القوة الغاضبة، القوة الشهوانية)، وعلى مستوى الدولة ترادف العدالة ذلك الانسجام بين الطبقات الثلاث (طبقة الحكام، طبقة الجيش، طبقة العبيد)، إذ لكل صنف من الناس عمله ولا يجوزله التدخل في شؤون الآخرين، يقول أفلاطون: "من العدل أن ينصرف المرء إلى شؤونه دون أن يتدخل في شؤون غيره"، والعدالة هي التي تجعل جميع المواطنين يؤدون وظائفهم بمحض مؤهلاتهم وانتمائهم الطبقي، دون أن يعتدي أحد على أحد، وذلك من أجل "إضفاء الكمال على الدولة".

    2- موقف ألان (إميل شاريتي): العدالة مساواة

    لا يتحقق الحق ولا تتأسس العدالة إلا داخل مبدإ المساواة، فالحق هو المساواة عينها، والعدالة هي القوانين التي يتساوى أمامها جميع الناس، بغض النظر عن انتمائهم الثقافي والجغرافي والسياسي...إذ يجب أن يخضع الجميع لنفس القوانين وأن يتعاملوا نفس المعاملة وأن يستفيدوا من نفس الامتيازات بالتساوي، وإلا فلا فائدة في القوانين والتشريعات ولا معنى لإلزاميتها، يقول ألان: "لقد ابتُكِر الحق ضد اللامساواة...أما أولئك الذين يقولون إن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيساً". 

     

    3- موقف ماكس شيلر: المساواة ظُلم

    على عكس موقف ألان يرفض شيلر الفكرة الأخلاقية الحديثة القائلة بربط العدالة بالمساواة، هذه الأخيرة –في نظره-  تُعيق الاختلاف الفكري والتفاوت الاقتصادي والتفاضل الاجتماعي، وتجعل الناس متساوين مساواةً مطلقة، متجاهلة تباين قدراتهم وإمكاناتهم ورغباتهم. إنه لمن الظُّلم ومن دواعي الحقد والكراهية للقيم السامية أن ننـزع من الوجود اختلاف الناس في المواهب والاستعدادات والكفاآت لكي نتحدث عن إمكان تحقيق المساواة الأخلاقية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية...

    إن العدالة الحقيقية هي التي تعترف بالفُروق الفردية والجماعية، وتحافظ عليها. ولا ينكر هذا إلا مَن يعيش في وضعٍ سيئ يخشى مِن عزلته وضعفه. يقول شيلر: "الذي يخشى الخسارة، هو وحده الذي ينشد العدالة والمساواة العامة".

    4- موقف جون راولس: العدالة مساواة وإنصاف

    يقوم مبدأ الشراكة بين مواطني دولة التعاقد الاجتماعي -وتتأسس العدالة بينهم- على مبدأين اثنين هما:

    - مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات الأساسية.

    - مبدأ التفاوت والتفاضل في وضعيات استثمار الثروة والسلطة، أو  ما يُسميه راولس بـ: "اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية".

    ينهض رخاء المجتمع على أساس توزيع المهام واقتسام الامتيازات والتعاون على الإنجازات، بطريقة تستحضر الفروق الفردية والجماعية وتمكِّن من تحرير المبادرات واكتشاف الطاقات وتحسين الوضعيات و"تضمن خير كل الأفراد وكل الجماعات التي تنتمي إلى نظام ديمقراطي عادل" بناء على التعاون الإرادي والتنافس الحر. ولعل هذا ما حدا بأرسطو إلى تفضيل الإنصاف على المساواة نظرا لكونه الشرط الأساسي لتجاوز عيوب تطبيق العدالة.

    ---------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com


    2 تعليقات
  •  

                       مفهوم العنف           

     د. أحمد الفرَّاك

     

    تقديم:

           إذا كان العنف هو إلحاق الضرر والأذى بشخص ما أو جماعة من الأشخاص، أواستعمال القوة بشكل غير مشروع، فإنه لا يتخذ شكلا واحدا فقط، بل يتوزع على مجموعة من الأشكال تغطي كافة مجالات وعلاقات التفاعل البشري، ويحافظ على دلالاته المتعددة والمتباينة على طول التاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي للإنسان، يرتبط بالأفراد حينا وترعاه المؤسسات أحيانا أخرى. قد يراه هذا الطرف واجبا مقدسا بينما يراه الغير جورا وتعسفا. مما يجعل حصر دلالة العنف أمرا مستعصيا، لكنه لا يمنع من طرح الإشكالات التالية:

    * ماهي أشكال العنف؟ وهل يقتصر على الإيذاء البدني الظاهر أم يتجاوزه إلى أساليب أخرى رمزية وخفية؟

    * كيف تولد العنف في التاريخ؟ وما هي الأدوار التي كان يلعبها؟

    * من أين يحصل العنف على مشروعيته؟ وهل هناك عنف مشروع أصلا؟ وإذا ماكان مشروعا فهل مشروعيته مطلقة أم مقننة؟

     

    المحور الأول: أشكال العنف

    1-   العنف البدني: إيف ميشو 

            العنف الجسدي هو ضرر وألم مقصود يَنْصبّ على جسم الكائن ويدَع أثرا قابلا للملاحظة، مثل الضرب والقتل والتعذيب والحرب والتجويع...حيث يُعد العنف من الظواهر التي تلتصق بتربية الأفراد وثقافتهم مثلما ترتبط بالمؤسسات المجتمعية والأنظمة السياسية. فكما نجد أفرادا يمارسون العنف (homo Violens) كذلك هناك أنظمة سياسية بوليسية تقيم معسكرات للتعذيب المنظم. وقد أسهم التدفق التقني المعاصر في تطوير وتنويع وتيسير أساليب فعل العنف، يقول ميشو: "إن هذه التكنولوجيا المتطورة لا تجعل العنف في المتناول فقط، بل تجعله على وجه الخصوص أكثر فتكا"، زاد من هذا الفتك الاستعمال الممنهج لوسائل الإعلام التي تروج لمختلِف مظاهر الإبادة والتعذيب والتخريب...

     

    2- العنف الرمزي: بيير بورديو

            بالإضافة إلى العنف الفيزيائي (البدني) هناك شكل آخر من العنف وأكثر فاعلية يسميه بورديو بالعنف الرمزي، وهو "عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة" كالكلام والتعليم والتربية والثقافة... فيلحِق الضرر بالغير بطريقة لا تثير انزعاجا، بل إن الذين يمارس عليهم هذا العنف قد لا يعتبرونه عنفا وقد يساهمون في إنتاجه وترويجه وكأنه حتمية وجودية، إذ يتلقى الناس أفكارا وأراء ومسلمات كأنها حقائق مطلقة وثابتة، ويَقْبلونها بكل تلقائية وتسليم. هذا النوع من التلقي يسميه بورديو بِ "الإقناع الصامت والسري" الذي يفرض الهيمنة والسلطة.

     

    المحور الثاني: العنف في التاريخ

     

    1- الصراع جوهر التاريخ: كارل ماركس

    لا يخلو التاريخ البشري من تعاطي ظاهرة العنف، بمختلف أشكاله وأحجامه، فمنذ بدايات ظهور العلاقات والتفاعلات البشرية على وجه الأرض والمواجهة كائنة ومستمرة بين الأفراد فيما بينهم كما بين الجماعات أيضا (النقابات، الإديولوجيات..)، إذ الصراع الطبقي حسب ماركس هو الذي يحرك تاريخ المجتمعات، هذه الأخيرة التي تتصارع فيها -في الغالب- طبقتان متعارضتان من حيث الوضعيات و المصالح، طبقة الأسياد المالكين لوسائل الإنتاج (البورجوازية)وطبقة العبيد المستخدَمين (البروليتاريا)، ولم يتمكن المجتمع الحديث من القضاء على الصراع بين الطبقات، بقدر ما أقام طبقات جديدة وبالتالي أعاد إنتاج الصراع وتجديد الاضطهاد.

     

    2- الرغبة سبب العنف: روني جيرار

           باعتبار الانسان كائن راغب، تُوجِّه تفكيره وسلوكه مجموعة من الرغبات، فإن إشباع هذه الرغبات يلتصق بموضوعات معينة وتكاد تكون موحدة بين البشر، مما يجعل الناس جميعا يتوجهون إلى نفس الموضوعات، فيظهر بينهم التنافس والتدافع ويتحول الأمر إلى النزاع والصراع ثم إلى حربٍ مفتوحة تأتي على الأخضر واليابس، ولا يتوقف العنف بين بني الإنسان إلى الأبد، نظرا لعدم انقضاء الرغبة المرتبطة بالموضوع المتنازع حوله من جهة، ونظرا لظهور سيكولوجية الانتقام الجماعي المؤجل من الخصم من جهة ثانية. على خلاف الحيوانات التي يخمد الصراع بين أفرادها بمجرد الغلبة وخضوع الأضعف للأقوى.

    يقول جيرار: "إن العنف الانساني عنف مُعدٍ: فهو ينتشر في الجماعة من فرد إلى فرد،...ويمكن أن يؤدي إلى قيام مذابح جماعية"، إلا أن هناك افتراض يفيد أن الإنسان انتبه إلى وسيلة لتدويب الصراع والعنف والانتقام، تسمى: الفدية أو الفداء أو الأضحية،من أجل درء وإيقاف دورة العنف بين الطوائف المتقاتلة...ومن تَمَّ جاءت تسمية: كبش فداء.

     

    المحور الثالث: العنف والمشروعية

     

    1-  العنف المشروع: ماكس فيبر

    تقوم كل دولة في التاريخ على ممارسة السلطة، وتقوم كل سلطة في التاريخ على ممارسة العنف، ولا يُتصور وجود دولة خالية من العنف، إذ لا معنى لغياب العنف إلا ظهور الفوضى واللانظام، ومادامت السياسة تعني تنظيم المجتمع وتوجيهه فلا تنظيم ولا توجيه إلا باستعمال الضغط والإكراه والرذع، وبالتالي فالواقع الحقيقي كما يقول تروتسكي هو أن "كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف" أو حسب تعبير فيبر "العنف هو الأداة الخصوصية لدى الدولة، والعلاقة في أيامنا هذه بين الدولة والعنف هي علاقة حميمية. فقد كان العنف الجسدي هو الوسيلة العادية للسلطة".

    إلا أن ماكس فيبر هنا لا يُجيز العنف إلا للدولة التي تُعَد في نظره المؤسسة الوحيدة التي يحق لها احتكار العنف، و"لايُسمح لأية جماعة بشرية أو لأيٍّ من الأفراد بحق استعمال العنف إلا عندما تسمح به الدولة".

    وإن كان السؤال العالق هنا هو: إذا كان العنف من حق الدولة فهل يتعلق هذا الحق بأي نوع من الدولة حتى وإن كانت دولة الاستبداد والظلم؟

    2- العنف غير مشروع: غاندي

    يرفض غاندي العنف -كفعل ينم عن نية عنيفة في إلحاق الألم بالخصم- رفضا مطلقا سواء صدر من طرف الفرد أو من طرف الدولة، ويعتبره رذيلة وهمجية أتعبت العالم ولم تُفِد الإنسانية في شيء، ويجب تعويضه باللاعنف. إلا أن هذا الأخير لا يعني خيار الاستسلام والانبطاح لقوى الفساد أوالركون والتبعية للإستبداد أو الاستقالة والقعود، ولا "تخليا عن كل صراع حقيقي ضد الشر، بل هو على العكس" مواجهة ومعارضة روحية، ذهنية وأخلاقية عميقة تفُلُّ سيف العدو من حيث لا قِبَل له بمفعولها"، وهذا يتطلب مقاومةً تجمع بين تربية الروح وتدريب الجسد، وإلا فستكون مقاومة ضعيفة ولا يمكن أن تؤدي إلى القصد منها. يقول المهاتما (أي الروح العظيم) مستهجنا العنف: "إن اللاعنف هو القانون الذي يحكم النوع الانساني مثلما أن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني". وقد كان يردد عبارة: "الساتياجراها" أي الإصرار على الحق دون عنف.

    ولعل هذا ما يؤكده إريك فايل باعتباره أن الفلسفة تناهض العنف بجميع أنواعه وبمختلف مبرراته وتدعو مقابل ذلك إلى استعمال العقل في الإقناع الحجاجي والبرهاني.  

    ----------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com 


    تعليقك
  • مفهوم السَّعـادة

          أحمـَد الفـرَّاك

     

    تقديم:

        يتمنى جميع الناس يتمنون أن يحيوا حياة سعيدة، مِلؤها الطمأنينة والسكينة والانشراح، إلا أنهم يختلفون في تصورهم لطبيعة هذه السعادة، ولا يتفقون في تحديدهم للوسائل الموصلة إليها، فقد نجد موضوع سعادة أحدهم تعاسةً للآخر، ووسيلة تحصيلها عند هذا مذمومة عند غيره، وهكذا. الأمر الذي يثير عدة إشكاليات فلسفية، نذكر منها:

    *- إذا كانت السعادة مرتبطة بوعي الناس للواقع الذي يعيشون فيه فكيف يتحدد تمثلهم لها؟ أهي إشباع لنزوات الجسد فقط؟ أم إقناع للعقل وكفى؟ أم تَشَوُّف للقيم الروحية العليا؟ أم هي انسجام وتوافق وتداخل؟

    *- هل يمكن للمرء أن يشعر بالسعادة فعلا؟ وكيف؟ أم أن السعادة مجرد أُمنية وحُلم وفكرة جميلة؟

    *- أتتحقق السعادة في إطار الواجب الموضوعي المستقل عن الذات أم خارجه؟

    وهل تتكامل السعادة مع الواجب أم تتعارض؟ وهل الاستجابة لنداء الواجب تُوصل إلى السعادة أم تُبْعِد عنها؟

    عن هذه الإشكاليات ستجيب المحاور التالية تباعا، وبشكل مختصر:

     

    المحور الأول: تمثلات السعادة

        

    1- السعادة سعادات: أرسطو

    إن كان جميع الناس يعتبرون السعادة هي الخير الأسمى، فإن أن هناك اختلافا بينهم في تحديد طبيعة هذه السعادة وأصلها، فمنهم من يحصرها في لذة المأكل والمشرب والملبس والمنكح والمركب (اللذة البدنية)، ومنهم من يربطها بالثروة والتشريفات والجاه والمجد والحَسَب (اللذة السياسية)، وصنف ثالث يرى سعادته في الحياة التأملية العقلية (اللذة العقلية)، وهو الصنف الذي تمثِّله قلة من الناس ارتفعت عن مختلِف مطالب الجسد وأغراض السلطة، وقصدت السعادة العميقة والأكثر متانة: سعادة العقل، التي هي سعادة في ذاتها وكل ما عداها مجرد وسيلة لتحقيقها. أما وقد رضي أكثر الناس بأن يعيشوا سجيني المتعة المادية، فهم حسب أرسطو "عبيد يختارون بمحض ذوقهم عيشة البهائم".

     

    2- سعادة الكُمَّل: ابن مسكويه

    السعادة الحقيقية ممنوع إدراكها إلا على الكُمَّلِ من الناس، وهي "شيء ثابت غير زائل، ولا متغير، وهي أشرف الأمور، وأكرمها وأرفعها"، ومحلها النفس وحدها من غير البدن، ومن ظفر بها لن يضره إن تعطلت بعض وظائف جسده أو صار سقيما، يقول ابن مسكويه: "أما الفقر والخمول وسقوط الحال، وسائرالأشياء الخارجة عنها، فليست بقادحة في السعادة البتة". أما عن اختلاف الناس في معاني السعادة فراجع إلى خَصاص كل واحد منهم: الفقير يرى سعادته في الثروة، والمريض يراها في الصحة، والذليل يراها في الجاه والسلطة...وهكذا ذواليك. إلا أن هذه السعادات هي مطلوبة لغيرها وليست مطلوبة لذاتها...

     

    المحورالثاني: البحث عن السعادة

    1- السعادة في اللذة: أبيقور

    يعتبر أبيقور أن اللذة هي المبدأ الأكبر والمرجع الأهم والخير الأول الذي على أساسه ينبغي أن نُرتب جميع الاختيارات، وفي سبيله نستطيع أن نتحمل الكثير من الهَنات، فهي "بداية الحياة السعيدة ومنتهاها"، والخير كله في إدراكها، والشر كله في تفويتها، و"كل لذة هي في ذاتها خير". إلا أن هذا المعنى للسعادة لا يفيد البتة الإسراف والتسيُّب أو "اللذات الخاصة بالفُسَّاق أو اللذات المتعلقة بالمتعة الجسديةَ، بل اللذة التي نقصدها هي التي تتميز بانعدام الألم في الجسم والاضطراب في النفس"..

     

    2- السعادة في الاستقلال عن العامة: سينيكا

    يرى سينيكا أن الواجب الأول هو تحديد طبيعة السعادة التي نريد، ثم تحديد الطريق الموصلة إليها، حتى نستطيع قياس المسافة التي تفصلنا عنها. مع الحذر التام من التيه عن الطريق أو الابتعاد عن المُرشِد الحكيم (الخبير) الذي بدونه يستسلم المرء لاختلاط الأصوات واضطراب الآراء، مما يُؤدي إلى شدة التيه والضلال، أو اتباع منطق العامة (عقلية القطيع) وتقليدهم لأنه "لا وجود لشيء أكثر تعاسة من الحياة وفق المحاكاة، لا وفق العقل...ولا وجود لدواء أفضل من الاستقلال عن العامة." الذين لا يطلبون السعادة العقلية الحقيقية وإنما يقتصرون على اللذات الجسمية...

     

    المحور الثالث: السعادة والواجب

     

    1- أخلاق السعادة: إبِّكْتِيتْ (الفلسفة الرواقية)

    من أخلاق السعادة حسب إبِّكْتيت التمييز بين مجالين: مجال الأشياء الحرة التي تتوقف علينا، ولا يملك أحد أن يزيلها (مواقفنا ورغباتنا وحركاتنا...)، ومجال الأشياء التي لا تتوقف علينا (جِسمنا وممتلكاتنا وأفعالنا...)، وهي ضعيفة وعُرضة للإعتراض والاغتراب. ويكون الإنسان سعيدا إذا ما حصل له التوفيق في هذا التمييز وعمِل على احترامه، وذلك بأن يتصرف فقط في ما يملك هو، وأن يدع ما يملكه الآخرون لأصحابه، أنذاك –يرى إبكتيت- أنه "لا أحد يمكنه أن يرغمك على أن تفعل ما تريد، لن تشكو الناس، ولن تتهم أحدا، ولن تفعل شيئا مُرغما أو مُكرها...ولن يصيبك أي مكروه". وشقاء الناس ليس مرده إلى فِعل الغير، وإنما ناتج عن آرائهم الخاطئة التي تدفعهم إلى اتهام الآخرين وتبرئة أنفسهم، متناسين أن الواجب في الإنسان المتحضر هو "ألا يتهم إلا ذاته"، أما الواجب في الإنسان الأكثر تحضرا فهو التسليم والكف عن "اتهام نفسه وعن اتهام الآخرين". و"إذا لم تجدْ ما تريد فأحببْ ما تجد" كما يقول إبكتيت.

     

    2- السعادة التزام بالواجب الأخلاقي: كانط

    ما يريده الإنسان ويرغب فيه يجب أن يكون هو نفسه الواجب الأخلاقي الموضوعي، وذلك بأن تَتَّحِد عبارة "يجب عَلي" مع عبارة "إنني أريد" اتحادا عمليا وشموليا، لتُكَوِّن قانونا كليا أصيلا، يُقيد أفعالنا ويُشعرنا بأننا في كامل الإحساس بالسعادة، ويُقنِعنا بأن الإمتثال اللامشروط له وحده ينير لنا الطريق لكل متعة أو منفعة أو خير. أو بعبارة أخرى: أن إرادة الإنسان وحريته متوقفة على مدى خضوعه للقوانين التي تحكم الطبيعة والمجتمع، وأن سعادته -حسب كانط- تظل رهينة بالمعطى الموضوعي المطلق المتمثل في تشريع الواجب الأخلاقي...

     

    السعادة إذن غير مستقلة عن القانون الأخلاقي الثابت والذي لا تُغيره المصالح والمنافع والأغراض... 

     

    -------------- 

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com 


    تعليقك
  •       مفهوم الدولة    

      د. أحمد الفراك

     

     

    تقديم : 

              لكي يعيش الناس في مجتمع يسوده النظام والاستقرار وتنتظم علاقات أفراده على أساس الحفاظ على المصلحة العامة التي يتقاسمها الجميع، لابد من إنشاء كيان قانوني وسياسي وأخلاقي يمتلك السلطة والسيادة التي تشمل الجميع٬ تُوكل إليه مهمة حفظ الأمن وضمان الحريات وتنظيم العلاقات بين الناس، فكانت الدولة (The state, L’Etat) هي ذلك الجهاز الضخم الذي تُنسب له وظيفة التنظيم والتدبير والتسيير فيما يتعلق بالشؤون العامة لمجموع مواطني بلد ما. لكن إذا كانت وظيفة الدولة واضحة من الناحية النظرية فإنها واقعيا تتلبسها مجموعة من الإشكالات نذكر منها:  

    - على أية مشروعية ترتكز الدولة في وجودها؟ أو بعبارة أخرى ما هي المبررات التي تُخول للحاكم ممارسة حكمه؟ وهل هي غاية أم وسيلة؟ 

    - على أي أساس تقوم سلطة الدولة؟ أو كيف تمارس الدولة تسييرها للشأن العام؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكومين؟ 

    - إذا كان واجب الدولة هو حماية الحق فهل يجوز لها أن تستعمل العنف؟ وإذا ما كان جائزا فهل هو مطلق أم مُقنن؟ 

    المحور الأول: مشروعية الدولة وغايتها 

    ِ

    1-  موقف ماكس فيبر: المشروعيات الثلاث

    إذا كان لا بد لكل دولة من مشروعية سياسية تستند إليها في ممارسة السلطة، فإن هذه المشروعية تنقسم إلى ثلاثة أسس مختلفة وهي: 

    - المشروعية التقليدية: أو المشروعية الوراثية وهي التي تستمدها الدولة عن طريق الوراثة٬ حيث يرث الحاكم سلطته عن آبائه وأجداده دون أن يختاره الشعب، وإنما يفرض نفسه متعاليا على الإرادة العامة لمجموع المواطنين، ولا يجيز الاعتراض عليه  أو تغييره٬ وتسمى سلطته بـ"سلطة الأمس الأزلي"... 

    - المشروعية البطولية: وتسمى المشروعية الكارزمية، وتقوم على المزايا الشخصية والإنجازات الكبيرة لشخص الحاكم الذي يتمتع بنفوذ خاص يجعل الناس يلتفون حول القضية التي يدافع عنها، كأن يكون عالما أو زعيما سياسيا أو مناضلا كبيرا أو ديماغوجيا... و يفرض احترامه على الناس طواعية. 

    - المشروعية الشرعية: وتسمى المشروعية الديمقراطية أو العقلانية، وأوهي المشروعية التي تُستمد من الإرادة العامة للشعب عن طريق التعاقد والاختيار٬ فتكون سلطة الحاكم قائمة على أساس الامتثال للواجبات والالتزامات المطابقة للقوانين٬ فيُنظر إلى الحكم كخدمة للدولة و إلى الحكام كأجراء عند الشعب ليس إلا. 

    2- موقف باروخ اسبينوزا: الغاية من الدولة هي الحرية 

    ليست الغاية من الدولة هي السيادة والتخويف والسيطرة والإكراه، وإنما هي حفظ حقوق الأفراد وحماية مصالحهم وضمان حرياتهم وأمنهم، إذ لا فائدة من الدولة إن لم تحرر الفرد من الخوف والرعب والترهيب، يقول سبينوزا: «الغاية من تأسيس الدولة ليست هي تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وﺁلات صماء»٬ ويعني أن وجود الدولة لا يقتضي احتقار المواطنين والاستخفاف بمطالبهم وإرغامهم على الطاعة، وتوظيف الأساليب الخسيسة لتركيعهم وسلبهم حرياتهم، فذلك مُناقض للغاية التي أُنشئت من أجلها، وهي صون وتنظيم الحريات الفردية والجماعية، وليست قمعها ومنعها، يقول سبينوزا: "الحرية إذن هي الغاية من قيام الدولة".

    ولما كان من المستحيل أن تتواطأ جميع أراء الناس وأفكارهم وكان من المستحيل أيضا أن يُثبت الفرد الواحد أن له العلم بكل شيء وقادر على كل شيء(الاستبداد)٬ فإن الطريق إلى تحقيق السلام والأمن هو تنازل الأفراد عن حقهم المطلق في أن يتصرفوا وفق إرادتهم المطلقة لصالح سلطة عليا تصون حقوقهم جميعا وفق القوانين المتعاقد عليها٬ شرط اعتماد العقل ونبذ أخلاق الحقد والعنف والخداع. دون أن يفيد ذلك تنازلهم عن حقهم في التفكير أو عن حقهم السياسي.

     

    3- موقف توماس هوبز : الغاية من الدولة هي السلم 

    وُلد الناس أحرارا و متساويين، غير أن هذا التساوي لم يثبت مع حالة الطبيعة التي تقوم على أساس الحرب الدائمة والفوضى والخوف والعنف والنزاع بين الأفراد، أو ما يسميه بالحرب المزرية أي "حرب الكل ضد الكل". لذلك اقتنع الجميع بوجوب البحث عن الوسائل الكفيلة بمساعدة الإنسان على تحقيق الأمن والاستقرار والسلم. فكان لزاما وقف استشراء العنف والانتقال بالتجمع البشري المهدد إلى مجتمع الدولة المنظمة. والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الانتقال هي "التعاقد الاجتماعي" الذي يضمن السلم والأمن بوجود حاكم أو مجلس حيث يتنازل الأفراد برضاهم عن حقهم الطبيعي المطلق (الحرية المطلقة) لفائدة الحاكم قصد ضمان باقي الحقوق والخروج من العيش وفق "حق القوة" إلى العيش وفق "قوة الحق" حيث تصان جميع الحقوق. وهذا التوافق بين الشعب والحاكم هو أساس سلطة الدولة الحديثة.

     

     

    4- موقف فريدريك هيجل: الدولة غاية وليست وسيلة  

    على خلاف ما سبق ينتقد هيجل التصور التعاقدي الليبرالي الذي يخلط بين الدولة والمجتمع المدني فيجعل الدولة مجرد وسيلة لخدمة الفرد وحماية حريته وملكيته، معتبرا أن هذا الخلط سيقود إلى حصر مهمة الدولة في حماية المِلكية والحرية الشخصيتين، وجعْل الغاية من وجودها هي مصلحة الأفراد من حيث هم أفراد، وآنذاك سيصبح الانتماء إلى الدولة أمرا اختياريا وليس ضروريا، غير أن علاقة الدولة بالفرد مختلفة عن ذلك تمام الاختلاف، فهي الروح الموضوعية الكلية التي تستمد مشروعيتها من ذاتها وليس من الفرد المتمركز حول ذاته، وبناء عليه فليس من اختصاصها تحقيق الأمن والسلم وباقي المطالب الفردية التي هي من صميم اختصاص المجتمع المدني، أما الفرد في حد ذاته فليس له من الموضوعية ولا من الحقيقة إلا بمقدار ما هو مواطن في دولة تعطيه المعنى والهوية يقول هيجل: "إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية". 

     

    المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

    كيف تمارس الدولة سلطتها في المجتمع؟ 

     

    1-  موقف لوي ألتوسير: القمع والايدولوجيا

    تقوم سلطة الدولة حسب ألتوسير  على الجمع والتكامل بين جهازين متباينين هما: 

           ●الجهاز القمعي: ويتكون من مجموعة من المؤسسات المتناسقة فيما بينها وهي: الحاكم، الحكومة، المحكمة، الإدارة، الشرطة، الجيش، السجن... وهو جهاز موحد يؤدي وظائفه بالتنسيق بين مؤسساته، وهو عمومي يستهدف عامة الناس، وظاهر يمارس فعله القمعي أمام الملأ، ويستخدم العنف المادي والمعنوي. وغايته هي تكريس سلطة الدولة وهيبة النظام، وإكراه الناس على الطاعة والامتثال... 

          ●الجهاز الإيديولوجي: ويتكون أيضا من مجموع المؤسسات التي تسهر على ترسيخ إيديولوجية الدولة داخل المجتمع، مثل: الأسرة،  الإعلام، المدرسة، الكنيسة، الأحزاب، النقابات... وهو جهاز موزع في جميع المجالات العلمية والاجتماعية والفنية والدينية والسياسية والنقابية والاقتصادية، وهو مُضمر  لا يعلن عن نفسه، وخاص بكل مؤسسة بحسب طبيعتها ورسالتها فيتكيف معها حيث هي، وهو سلمي لا يمارس عنفا ماديا بل يُعوِّل على التخدير والتنشئة والتطبيع... 

     2- موقف نيكولا ماكيافيلي : المكر والخيانة 

    في كتابه "الأمير" يرى نيكولا ماكيافيلي أن السلطة السياسية تقوم على الخداع والمكر والعنف، حيث يجب على الحاكم -إن كان يريد أن يكون عظيما ويتفوق على أمراء عصره- أن يمتلك القدرة على ممارسة سلطته بالجمع بين طريقتين مختلفتين ومتكاملتين هما:

    -         طريقة القانون: أي على الأمير أن يضع القوانين التي تضمن له استمرار سلطته وإجبار الناس على الخضوع لهذه القوانين٬ والذين يحترمون القانون يعدهم بشراً، أما الذين لا يخضعون لقانونه فهم –في نظره- بمثابة "حيوانات متوحشة" تستحق الردع والعقاب والمكر. 

    -         طريقة اللاقانون: أي حرص الأمير على استعمال وسائل البطش والتنكيل والتعذيب والقتل، بحيث يجوز له أن يخرق القوانين وينتهك الحقوق ويخون العهود ويعطل المواثيق ويضيع الأمانات، إذا لم يكن ذلك في مصلحته. 

    إذن أمام الحاكم مختلف الوسائل والطرائق والأساليب بما فيها التظاهر بأخلاق الرحمة والتدين والإحسان كي يحافظ على استمرار الدولة واستمراره هو نفسه في الحكم. مثلما عليه أن يكون مستعدا ليتحول إلى حيوان مفترس يبطش بمن يخالفه ولو خارج إطار القانون. يقول ماكيافلي: "على الحاكم أن يعلم جيدا كيف يتصرف كالحيوان، وأن يقلد الثعلب والأسد في نفس الآن".

    3- موقف عبد الرحمن بن خلدون:  الاعتدال 

    خلافا لماكيافلي يرى عبد الرحمن بن خلدون أن أساس السلطة في الرفق والاعتدال، والعمل بمقتضى النظر الشرعي والعقلي، وليس نظر الغرض والشهوة، وعلى الحاكم أن يتصف بصفات إنسانية نموذجية توصف بالاعتدال وليس بالبطش والخيانة، تؤهله لقيادة الرعية بالعدل والرحمة، وعلى الرعية أن تطيعه ما وَفَّى بشروط الطاعة في المعروف وإلا أُبدِل بغيره. وأخلاق الرعية من أخلاق السلطان، مما يوجب عليه التخلق بأخلاق إنسانية عالية ليكون قُدوة لغيره، ولا ينبغي أن يكون ظالما ومنافقا يخفي الغدر والمكر ويظهر التدين والرحمة، لأن قهر السلطان للرعية يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، والظلم مؤذن بخراب العمران. 

     

    المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف 

     

     

    من أجل تحقيق السلم والأمن والعدالة تحتاج الدولة إلى تطبيق القوانين التي بموجبها يخضع الناس لصوت الحق٬ لكن استجابة الناس لنداء العدالة متفاوت حسب تفاوت المستويات التربوية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية للأفراد والجماعات، مما يضطر الدولة لاستعمال أساليب الإكراه و الإجبار والعنف (وازع السلطان)٬ لكن استعمال هذا العنف قد يوقعها في تجاوز القانون وبالتالي انتهاك الحقوق وخيانة العهود٬ فيحصل الظلم، كما يقول بليز باسكال: "العدالة دون قوة ضُعف والقوة دون عدالة تسلُّط". مما يعيد طرح السؤال الإشكالي من جديد: إذا جاز للدولة أن تستعمل العنف بُغية ردع الأفراد والجماعات الخارجين عن القانون فهل يُشترط عليها أن تتقيد بضوابط القواعد القانونية المتعاقد عليها أم أنها تستعمل قوتها وسلطتها بصورة مطلقة وغير مقيدة (التعسف)؟ أو قل باختصار: هل عنف الدولة مشروع؟ وهل مشروعيته مطلقة أم مقيدة؟ 

     

    1-  موقف ماكس فيبر:  العنف المقنن

       يرى ماكس فيبر في كتابه "عالم وسياسي" أنه إذا كانت "السياسة هي فن قيادة تجمُّع سياسي يسمى الدولة، أو التأثير الذي يمارَس في هذا الاتجاه" فإن وجود الدولة تاريخيا رهينٌ بوجود العنف واستعماله، حيث لا تخلو مؤسسات الدولة من أجهزة مُتخصصة في استخدام وسائل وأساليب القمع و المنع والإكراه٬ ويستدل على ذلك بقولة شهيرة للزعيم الشيوع تروتسكي يقول فيها: "تقوم كل دولة على العنف"، من حيث لا يُتصور خُلُوها منه إلا من جهة المستحيل. ذلك أن تعاقد الأفراد فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية كان من أجل منع التظالم وضمان الأمن والاستقرار الجماعي، إلا أن هذا لا يتحقق إلا إذا احتكرت الدولة استعمال العنف٬ وخاصة العنف المادي فتكون هي مصدره الوحيد لتمنع جميع الأفراد والجماعات من استعماله مهما كانت مبرراتهم إلا بموافقتها، لكن لا يجوز لها ذلك إلا في إطار القانون المتعاقد عليه. 

            على خلاف موقف ماكس فيبر الذي يدافع عن مشروعية العنف في إطار المواثيق المتعاقد عليها (العنف القانوني)، يتميز ماكيافيلي بالدفاع عن استعمال العنف بشكل مطلق سواء في إطار القانون أو في إطار اللاقانون مادامت الغاية من الدولة هي الحفاظ على سلطة الأمير مهما كان الثمن الذي سيدفعه الأفراد ومهما كانت العهود المُبرمة معهم...  

     

    2-  موقف فردريك إنجلس: العنف نتاج الطبقية

    انطلاقا من التصور الماركسي لإشكالات الدولة يعتبر فرديريك إنجلس أن وجود الدولة لا يرتبط بالفكر الأخلاقي أو بالعقل المجرد، وليست الدولة إرادة عامة حرة وكلية كما يرى هيجل، وإنما هو نتاح للمجتمع في مرحلة معينة من تطوره حيث أسهمت التناقضات المجتمعية وتفاوت المصالح بين الناس في فرض الحاجة إلى الدولة من أجل تقليص أشكال الصراع و تنظيمها، أي أن الدولة بِنت صراع الطبقات الاجتماعية بحيث الطبقة الأقوى هي التي تسود وتسيطر. لكن القضاء على الصراع وتجاوز التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وإعادة تنظيم المجتمع على أسس اشتراكية سيُعجل برحيل الدولة أو الاحتفاظ بها في المتحف الأثري إلى جانب العَجَلة والفأس البرونزي.

    3- موقف جاكلين روس: دولة الحق

    لا يحق للدولة -في نظر جاكلين روس- أن تمارس العنف ولو في إطار القانون، إذ لا يكفي القانون وحده لضمان الحق، بل يجب أن تكون الدولة نفسها دولة حق، تحفظ كرامة الشخص باعتباره غاية، وتمارس السلطة السياسية بطريقة مُعقلنة قائمة على حرية الاختيار والفصل بين السلط، وتطبيق القانون على الجميع، وتَجسد الحق والقانون واقعا يوميا يعيشه الناس في حياتهم وليس مجرد شعارات ودساتير وخُطب. إن دولة الحق في نظر جاكلين روس واقع يومي يعيشه الناس في حياتهم ويلمسونه بأنفسهم ولا يمكن اختزالها في مجرد قوانين يستدعيها الحاكم للانتقام من خصومه وتكريس وضعية استبدادية يجمع فيها بين جميع السُّلط ويمارس الديكتاتورية باسم القوانين والدساتير والتشريعات.

     

    خلاصة المحور:

     إذا كان لا يتصور خُلو الدولة من أجهزةٍ تستعمل العنف كما يقول علي بن أبي طالب: "لا خير في حق لا تدعمه القوة"، فيجب أن يكون هذا الاستعمال من طرف الدولة الديمقراطية، أي دولة الحق والقانون، التي تأخذ على عاتقها حماية الحق في إطار القوانين المتعاقد عليها مع الشعب٬ باعتبارها تجسد إرادته العامة عبر انتخابات اختار فيها قادته وبالتالي سياسته، وأن يكون هذا العنف محدودا ومبررا بالقانون والواقع، وأن يكون ضد العنف، كما يقول إيف ميشو: "الدولة عنف ضد العنف".  

    ---------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     


    تعليقك
  • مسألة العِلمية في العلوم الإنسانية  

      بقلم: د. أحمد الفراك

     

    تقديم :

    استطاع الإنسان أن يحقق انجازات ملموسة وأن يصل إلى نتائج متقدمة في العلوم الطبيعية التجريبية، لكن مع ظهور العلوم الإنسانية في القرن 19 كاهتمامات تسعى إلى التخلص من الخطاب الفلسفي التأملي الميتافيزيقي حول الإنسان والتشبه بالعلوم الحقة التي نجحت في انفصالها عن الفلسفة وفي تحقيق رفاهية الإنسان. لكن الفرق بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية هو أن هذه الأخيرة تتخذ من المادة موضوعها بينما تنصرف الأخرى إلى موضوع الإنسان ذاته. من هنا ينبع الإشكال التالي:

    إذا كانت الظواهر الطبيعية محكومة بمبدا العطالة تقبل الدراسة والبحث والتجريب والتكرار بحسب ارادة الباحث فهل تستطيع العلوم الانسانية أن تعامل موضوعها نفس المعاملة؟ وهذه ظاهرة واعية إرادية لا تقبل التكرار ولا تخضع للاضطراد ومنه هل يمكن تحقيق مبدأ الموضوعية داخل حقل العلوم الانسانية وهل النظريات الانسانية تفسر السلوك الانساني أم تكتفي بوصفه ؟وهل نموذج للعلم داخل هذه الاهتمامات؟

    المحور الأول: الموضوعية في العلوم الإنسانية 

     1-موقف لوسيان غولدمان: مشكلة الفهم الموضوعي في العلوم الإنسانية 

    إذا احتل الإنسان موقع موضوع المعرفة في العلوم الانسانية وموقع الدارس لها في نفس الوقت فهل يمكن أن يتناول موضوعه بموضوعية؟ أو بعبارة أخرى: هل يمكن أن ينظر إلى موضوعه كشيء مستقل عن ذاته؟

    هناك فروق نوعية بين البحث في العلوم الحقة والبحث في العلوم الانسانية ففي الأولى تحتفظ الظاهرة المدروسة بوحدتها وثباتها وانسجامها ولا تصطدم بمصالح وقيم الناس لكن الثانية تعاني من تعطيل مبدا الموضوعية حيث يعترض عمل الباحث او العالم مجموعة من العوائق الشخصية الفكرية والنفسية والإيديولوجيا (مثل غياب روح النسقية، انعدام الرؤية النافدة، الغرور والطبع الانفعالي، غياب النزاهة الفكرية) بالاضافة الى المواقف والاراء والقناعات اللاشعورية التي لا تفارق تفكير الباحث . لهذا يرى لوسيان غولدمان أنه لا يمكن لتطبيق المنهج الديكارتي أن يحقق الفهم الموضوعي للظاهرة الانسانية وذلك "لأن الباحث يتصدى في الغالب للوقائع مزودا بمفاهيم قبْلية ومقولات مضمرة ولا واعية تسد عليه طريق الفهم الموضوعي بشكل قبلي"

    نستنتج إذن أن الباحث في العلوم الانسانية لا يستطيع أن يتخلص من إملاءات اللاشعور الثاوية في عمق بنيته النفسية والفكرية، وبناء عليه لا يمكن تحقيق تصور دوركايم في النظر إلى الظاهرة الإنسانية كشيء. 

     2- - موقف رينيه بوفريس: استحالة تحقيق الموضوعية في العلوم الانسانية 

    تؤكد بوفريس أن الفلسفة الوضعية أخفقت في زعمها إمكان تحقيق شرط الموضوعية في العلوم الانسانية لما اعتبرت أن الفكر العلمي قد حقق آخر الفتوحات العلمية لما تخلَّص من الميتافزيقا والفلسفة المجردة بصفة نهائية، وطردها من آخر حصونها (الإنسان)، فكان تاريخ الفلسفة هو تاريخ تراجعاتها كما يقول أوغست كونت، فرأت الوضعية أنه بإمكان تحقيق الدراسة العلمية الموضوعية الدقيقة للإنسان كواقع اجتماعي ملموس بعيدا عن السقوط في الذاتية، وذلك بتجنب إقحام "الفرضيات غير المحققة والتعميمات الاعتباطية" في المعرفة. لكن السؤال الإشكالي الذي تطرحه رينيه بوفريس على الفلسفة الوضعية هو: هل تستطيع العلوم الإنسانية أن تحقق الاستقلالية والموضوعية كما الشأن في العلوم الحقة؟ أم أنها تحتفظ بموضوعية خاصة وناقصة؟

    تجيب رينيه بوفريس بأن المعرفة المتعلقة بموضوع الإنسان تظل مشبعة بالذاتية ولا تملك أن تكون محايدة أو موضوعية ، حيث تؤكد أنه من المستحيل مبدئيا أن تتمكن العلوم الانسانية بلوغ موضوعية مطلقة أو على الأقل التخلي عن جزء من أهدافها والاكتفاء بدراسة المظاهر الأولية من الحقيقة أو الواقعة الإنسانية.

    المحور الثاني: الفهم والتفسير 

    1-  موقف جيل غاستون غرانجي: محدودية منهج الفهم    

    للجواب عن سؤال ماهي وظيفة النظرية؟ هل هي الفهم أم التفسير؟ يقدم غرانجي تصورين أحدهما يعتبر أن وظيفة النظرية هي التفسير، أي "كشف العلاقات الثابتة التي توجد بين عدد من الحوادث والوقائع، واستنتاج أن الظواهر المدروسة تنشأ عنها" والآخر يسمى الفهم ويعني صورنه الوقائع والحوادث في صياغات رمزية رياضية، أو بعبارة أخرى تكميم الواقع عبر تأويله تأويلا يفيد تحقيق الفهم للسلوك الإنساني .

    رغم ما للتفسير من قيمة في تحويل الحوادث إلى خطاطات صورية فانه لاينبغي تجاوز حدود العلم الى الأسطورة والسحر . فكل بحث أو دراسة تتعلق بالعلة والسبب  هي دراسة لاعلمية. ورغم ماللفهم من قيمة في نقل صور حدسية عن انفعالات الإنسان وعواطفه ومواقفه فإنه عاجز عن تحقيق غايته المتمثلة في فهم جميع الظواهر، حيث اذا ما ادعى ذلك فانه خرج عن العلم إلى اللاعلم . يقول غاستون غرانجي: "الرغبة في فهم جميع الظواهر تجنح بالمعرفة في متاهات الأسطورة والسحر، فالذهنية البدائية هي بالظبط الذهنية التي ترمي إلى فهم كل شيء"

    وهذا يعني أن الفهم نشاط عقلي عاجز عن استيعاب جميع الظواهر الإنسانية فيزيائية كانت أو ذهنية. وذلك راجع أساسا إلى تعقد وغموض الظاهرة المدروسة (الإنسان)

    2-موقف جول مونرو: أهمية الفهم في بناء العلم والبداهة 

    إذا كان التفسير تبريرا أو تعليلا لحدوث الظواهر انطلاقا من ارتباطها بظواهر أخرى بناء على جملة من الإجراءات التي يقدر أنها علمية وموضوعية فإن منهج الفهم يتوجه إلى الظاهرة الإنسانية في وضعيتها الوجودية الوجدانية وإدراكها معرفيا مباشرا دون استعمال لأية وسائط استقرائية، ذلك أن الخاصية الأساسية في منهج الفهم هي البداهة والوضوح فما يكون بديهيا نفهمه بطريقة مباشرة لا نشك فيها بل نسلم بصحتها ابتداءا، وكمثال على هذا الفهم البديهي يقول جول مونرو: "فنحن نتفهم الغضب وتسديد الضربات لأن هذه العلاقة بديهية..وعلينا أن نقول على الفهم كما يقول باسكال عن روح الدقة فهو "رؤية نافذة وإدراك مباشر...لدلالة معيشة".

    وهنا ينتقد مونرو التصور الوضعي الذي يدعي إمكان تحقيق معرفة علمية لجميع الظواهر الفيزيائية منها والذهنية والاجتماعية.

    المحور الثالث : مسألة نموذجية العلوم الإنسانية 

    1- موقف جان لاديير : أي نموذج للعلمية في العلوم الانسانية؟ 

    تسعى العلوم الانسانية أن تحقق صفة العلمية كما هو الشأن في العلوم الطبيعية لكن الاشكال المطروح هنا هو: هل طريق بلوغ العلمية في العلوم الاجتماعية هو فقط تقليد ونسخ نموذج العلوم التجريبية؟ وهل بالإمكان إخضاع الظاهرة الانسانية لنفس الدراسة التي تخضع لها الظاهرة الطبيعية''؟

    واقعيا وعلميا يستعصي على الفعل البشري أن يتحول إلى موضوع ميسر للدراسة العلمية إزاء ذلك تظهر إمكانيتان:

    1- إمكانية الاستيراد: وتعني نسخ المناهج أو نقل "المناهج التي كشفت عن حِجِّيتها في ميدان  علوم  الطبيعة" وتطبيقها في ميدان الظواهر الاجتماعية، مع العلم بأن ذلك يتطلب "وضع الفاعلين بين قوسين".

    2- إمكانية الاستقلال: وذلك بالتخلي عن استيراد نماذج العلوم الطبيعية وإنشاء نموذج أصيل يوافق طبيعة الموضوع المدروس (الظاهرة الانسانية)

    الإمكانية الأولى التي من خلالها يمكن تناول الوقائع الاجتماعية كما تتناول الأشياء المادية. تطرح صعوبة منهجية تتمثل في عدم القدرة على الاحاطة ب''كل ما يتصل بنظام الدلالات ونسق المقاصد والغايات والقيم" وهذا يعني فشل الإمكانية الأولى.

     أما الإمكانية الثانية والتي بموجبها تبدع علوم الانسان أدواتها الخاصة تسقط في شباك الذاتية حيث الانسان هو الذات الدارسة والموضوع المدروس في نفس الوقت، وهذا يعني فشل الإمكانية الثانية في الاستقلال عن العلوم الطبيعية، فما العمل؟

    يرى جان لاديير أن مجال العلوم الاجتماعية والانسانية بإمكانه أن ينفرد بصورته الخاصة للعلمية مغايرة لما هو عليه الأمر في مجال الظواهر الفيزيائية، لكن المغايرة لا تفيد الاستقلال التام عن الشكل المميز للعلوم الطبيعية .

    2-موقف إدغار موران: نموذجان للمعرفة في العلوم الانسانية . 

    يميز إدغار موران بين نوعين من السوسيولوجيا: سوسيولوجيا لا تزال حبيسة التأمل الفلسفي والمقال الأدبي والفكر الأخلاقي، وتسمى بالسوسيولوجيا الإنشائية، وسوسيولوجيا تستعير منهجها من الفيزياء وتتناول موضوعها بنفس الطريقة التي تتناول بها العلوم الطبيعية موضوعاتها، وذلك بعزل الموضوع المدروس وتخليصه من الذاتية وتأثير مختلف القوى المحيطة به ويسمى هذا النوع بـ"السوسيولوجيا العلمية".

    في السوسيولوجيا الإنشائية لا يلزم إبعاد الذات بقدر ما ينبغي أن تحضر هذه الذات حضورا بيولوجيا يجعل الإنسان في قلب عالمه، يحيل على ذاته كما يحيل إلى ما يقع خارجها حيث يمتلك قدرة خلاقة في فهم الظاهرة الإنسانية وتفسيرها، وبهذا الصدد يقول أوغست كونت: "إن الاستكشاف العلمي في السوسيولوجيا شأنها شأن البيولوجيا ييستخدم ثلاثة أنماط أساسية هي: الملاحظة الخالصة والتجريب الدقيق وأخيرا المنهج المقارن".

     -----------------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     


    3 تعليقات
  •      مفهوم التاريخ  
       
          إعداد: أحمد الفراك 
     

    مفهوم التاريخ

       

     

    --------------------------------

    تقديم :

    يعيش الإنسان في جماعات منتظمة تحتكم في حياتها إلى قيم وقوانين تتجاوز الأفراد من حيث أعمارهم لتمتد إلى عصور وأزمنة مختلفة، لكن لا تاريخ دون حضور الشخص وفعله فيه وإلا فمن يجهل أثر العلماء والباحثين والمكتشفين والعباقرة على حياة الناس وطرائق سلوكهم؟ ثم أليست الصيرورة التاريخية نتاجا لما يصدر عن جميع الناس من تصرفات فردية وجماعية؟ هذه الأسئلة تثير الاستفهامات التالية:

    1- بالرغم من أن الإنسان ينتمي إلى التاريخ ينخرط فيه وينفعل به فإنه يتوق إلى فهم المنطق الناظم لصيرورته وبناء معرفة علمية به فهل هذه المعرفة ممكنة ؟ وإذا كانت كذلك فما هي أدواتها وما هي حدودها؟ .

    2- هل لتسلسل الأحداث وجهة محددة؟ هل يخضع التاريخ لقوانين منظمة أم أنه خاضع للصدفة فقط ؟ ثم هل للصيرورة التاريخية تقدم خطي مسترسل أم أنها تراجع وارتداد ؟ وهل يتقدم التاريخ بالتراكم أم بالطفرات؟

    3- هل يخضع التاريخ لإرادة الإنسان وتحكُّمه أم على العكس من ذلك لا يتحدد الإنسان إلا كصناعة للتاريخ؟

     

    المحور الأول:  المعرفة التاريخية؟

    1- موقف عبد الرحمان ابن خلدون: التاريخ نظر وتحقيق

                يعتبر عبد الرحمان بن خلدون أن التاريخ علم أصيل قائم بذاته تتعاطاه جميع الأمم ويتداوله كل الناس (السوقة والأغفال، الملوك والأقيال، العلماء والجهال)، وهو قسمان ظاهر وباطن:

    - الظاهر: يهتم بتجميع أخبار السابقين وترتيبها ونقلها قصد تداولها بين الناس.

    - الباطن: لا يقف عند مجرد نقل الأخبار وإنما هو "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"، أي أن معرفة التاريخ علم له موضوعه الخاص ومنهجه الخاص، وتكمن أهميته كعلم في معرفة أحوال الأمم السابقة من أنبياء وملوك وغيرهم، لهذا تحتاج المعرفة بالتاريخ إلى "مآخذَ متعددة ومعارف متنوعة وحُسنِ نظرٍ وتَثَبُّثٍ يُفضيان بصاحبهما إلى الحق" مثلما تحتاج إلى التمكن من استيعاب القواعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستعمال القياس العقلي بنوعيه "الغائب على الشاهد والشاهد على الغائب" ولزوم الموضوعية والحياد. وأخيرا يشير ابن خلدون إلى المزالق والأخطاء التي يقع فيها المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل وذلك لأنهم لا يمحصون الأخبار ولا يستعملون القياس ولا يتحققون من الأحداث ولا يعلمون طبائع الكائنات، كما أنهم لا يفاضلون بالعقل ما حصلوا من معلومات مما يقودهم إلى إنتاج معرفة متوهمة ومغلوطة وناقصة تسيء إلى الحق وتبتعد عن الحقيقة.

    2- موقف هنري إيريني مارو: علم التاريخ هو معرفة الماضي

    يتعارض علم التاريخ حسب إيريني مارو مع الاهتمامات التالية:

    -السرد الخبري لأحداث الماضي: لأن مجرد السرد تجميع للوقائع وترتيبها ثم نقلها، أما التاريخ فهو معرفة علمية تجمع بين التصور المنهجي المنظم وبين التدوين المكتوب.

    -البحث والدراسة: لأنهما وسيلة للمعرفة وليسا غاية لهذا فالمعرفة التاريخية هي التي تفيدنا في الوصول إلى نتيجة يعمل المؤرخ على بناءها بنفسه.

    -الإيديولوجية والخيال والأسطورة والقصص التربوية: لأن هذه تزيف الواقع وتمسخه أما علم التاريخ فيتحدث عن الماضي البشري كما هو لا كما ينبغي أن يكون.

    -المعرفة العامية: وهي معرفة مختلطة بالأوهام والظنون والرغبات أما التاريخ فهو "معرفة مبنية تتشكل تبعا لمنهج منظم وصارم".

      

    المحور الثاني :   التاريخ وفكرة التقدم؟

    1-موقف إدوارد ه. كار: التقدم والتطور

    ينتقد إدوارد كار ثلاثة تصورات فلسفية حول فكرة التقدم:

    - التصور الأول: وهو الذي تدافع عنه الفلسفة الاختزالية، التي تخلط بين التقدم والتطور، وقد أشاع هذه النزعة فلاسفة الأنوار لما اختزلوا التقدم وهو مكتسب اجتماعي في فكرة التطور الحاصل في مجال الطبيعة. والحقيقة أن الطبيعة تطورية والتاريخ تقدمي كما أكد ذلك هيجل موضحا اللبس الذي تركه موقف داروين جراء خلطه بين الوراثة البيولوجية والاكتساب الاجتماعي.

    - التصور الثاني: هو الذي ينظر إلى التاريخ نظرة إسكاتولوجية تفترض أن للتاريخ بداية ونهاية.

    - التصور الثالث: وتحمله النزعة الخطية التي تنظر إلى التاريخ وكأنه يسير في اتجاه خطي تراكمي متدرج بلا انقطاع.

    وبناء على ما سبق يرى إدوارد كار أن التقدم في التاريخ لا يرتبط بحركية الطبيعة ولا بالطبيعة البيولوجية للإنسان وإنما يرتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام. التطور شيء والتقدم شيء آخر، قد يكون التقدم تطورا وقد لا يكون، إذ يتجاوز التطور إلى حدوث انعطافات كبرى أو طفرات. مثلما أن التقدم لا نهاية له ولا بداية ولا غاية،  ولا يتجه صوب أية حادثة أو مقصد أو هدف وإنما هو تغير منفتح في الزمان والمكان على مختلف الاحتمالات.

    2- موقف هربرت ماركوز: فكرة التقدم

    يميز هربرت ماركوز بين نوعين من التقدم عرفتهما الحضارة الغربية المعاصرة هما:

    - التقدم الكمي: أو التقدم التقني وهو التقدم الذي يقع على الأشياء فتحصل الوفرة الإنتاجية أو ما يسميه آدم سميث "الرفاهية الاقتصادية" أي ذلك التقدم الذي يساهم في ازدياد الثروة الاجتماعية وتلبية الحاجات ومضاعفتها.

    -التقدم الكيفي: وهو التقدم المتعلق بذات الإنسان لا بملكيته، إنه تقدم معنوي يحقق اتساع دائرة الحرية وتقليص دائرة الاستبداد والاضطهاد. فهو تقدم يلامس إنسانية الإنسان لذلك يصح أن يسمى بالتقدم الإنساني أو التقدم ذي الأهداف الإنسانية.

    إلا أنه لا يتحقق التقدم الإنساني إلا عبر التقدم التقني وإن كان  هذا الأخير ليس سببا كافيا لحصول الأول إذ هو عامل مساعد يحتاج إلى عوامل أخرى، لذلك يؤكد  هربرت ماركوز على أنه: "ليس التقدم الإنساني نتيجة أوتوماتيكية للتقدم التقني".

    المحور الثالث :   دور الانسان في التاريخ؟

    1- موقف لوي ألتوسير: التاريخ سيرورة دون ذات فاعلة

    يعرض لوي التوسير موقف هيجل من التاريخ فهو في نظره عملية اغتراب واستلاب في خط مستقيم وليست لها أية غاية خارجة عن ذاتها ولا يحركها الإنسان، إن التاريخ يتجاوز الكائن البشري، هذا الأخير الذي لا يتجاوز أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق غائية تاريخية تسلبه إرادته وحريته الذاتية، لهذا فالتاريخ سيرورة اغتراب دون ذات فاعلة  أي دون فاعلية إنسانية .

    إن الروح كمقام يتجلى فيه وعي الذات بذاتها يبقى مغتربا عن التاريخ في غربة عن الطبيعة، إن البنيات هي التي تحرك الناس وتصنع أدوارهم وتفسر سلوكاتهم. يقول ألتوسير: "إن التاريخ يُنظر إليه بما هو سيرورة اغتراب بدون ذات فاعلة، أو بما هو سيرورة جدلية غُفْل من كل ذات".

    2- موقف جون بول سارتر: الإنسان هو صانع التاريخ

     على خلاف موقف ألتوسير ترى الفلسفة الماركسية أن الإنسان هو "نتاج نتاجه الخاص" بمعنى أنه إذا كانت البنية الإنتاجية "أدوات، أنماط، علاقات" هي التي تصنع الإنسان فإن الإنسان هو الذي يصنع هذه البنية، أي أنه يفعل في التاريخ وإن كان منفعلا به في نفس الوقت، يقول انجلس: "إن البشر يصنعون تاريخهم على أساس الشروط المادية والواقعية السابقة". وبناء عليه يرى سارتر أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم بفعلهم وإرادتهم ووعيهم وليسوا مجرد وساطات حاملة لقوى لا إنسانية، لكن هذا لا يعني تغييب الشروط الواقعية والمادية السابقة، وإنما يعني أن للناس القدرة على تسخير هذه الشروط وتوظيفها أو تجاوزها. وحتى إذا خضع الشخص لقبضة التاريخ فهذا لا يفيد أنه لم يصنع التاريخ وإنما يفيد أن شخصا آخر هو الذي صنع هذا التاريخ ليخلص سارتر إلى قوله: "الإنسان يصنع التاريخ".

     

    نستنتج من الموقفين السابقين أن علاقة الانسان بالتاريخ علاقة معقدة، فحتى على المستوى النظري تمثل عويصة يستحيل معها تقديم جواب سريع أو حاسم. فمن جهة يخضع الناس إلى الشروط الموضوعية التي يستحيل الانفصال عنها ومن جهة أخرى لا تمثل هذه الشروط سوى تجسيدا لفعل الانسان في التاريخ. والواقع أن الإنسان يصنع التاريخ إذ يصنعه التاريخ، يخضع الناس لظروف الحياة لكنهم يمتلكون القدرة على تغييرها. وبهذا الصدد يقول بول ريكور: "التاريخ يصنع المؤرخ مثلما أن المؤرخ يصنع التاريخ".

    ------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com


    تعليقك
  •            مفهوم الحـقيـقـة       

    د. أحمد الفراك  

     

     مفهوم الحقيقة

     

     

    تقديم: 

    تطلق كلمة حقيقة على عدة معاني متداولة اجتماعيا مثل الصدق، الحق، الواقع.. وتستعمل بشكل مكثف، وتحتفظ بحمولة سحرية في أذهان جميع الناس، إذ يرغب فيها الجميع ويستحسنونها لفظًا لكن الواقع يشهد بطمسها وتحريفها وتأويلها واستعمالها لأغراض ورغبات خاصة. فإن كانت "الحقيقة كلمة نبيلة" بتعبير مارتن هيدجر فإن ترجمتها إلى الواقع مهمة عويصة، تثير جملة من الإشكالات الفلسفية والعلمية والواقعية، نذكر منها: 

    1-- إذا كان هدف المعرفة هو بلوغ الحقيقة فكيف يتم الوصول إلى تلك الحقيقة؟ وما الفرق بين الحقيقة والرأي؟ وهل الحقيقة تُبنى أم تُعطى جاهزة؟ 

    -2- ما هي معايير تمييز الحقيقة عن اللاحقيقة؟ ما الفرق بين الحقيقة وأضدادها: الكذب، الوهم...؟ 

    3-- هل الحقيقة غاية أم وسيلة؟ لماذا نطلب الحقيقة؟ ما قيمتها؟ وما العمل إذا ما تعارضت الحقيقة مع المصلحة؟ 

    المحور الأول: الحقيقة و الرأي  

    إذا كان العلم يراجع ذاته باستمرار قصد التخلص من أخطائه، وإذا كانت المعرفة تتقدم بفعل عوامل النقد والمراجعة والتجاوز، أفلا تحتاج الحقائق أيضا إلى المراجعة لتتخلص من الأوهام والآراء التي التصقت بها؟ 

    1-- موقف رونيه ديكارت: ضرورة مراجعة الآراء السابقة  

       يرى رونيه ديكارت أن معارفنا وأفكارنا التي تلقيناها من المجتمع تحتوي على قدر كبير من الأخطاء، إلا أننا سلَّمنا بها واعتبرناها حقيقية وصادقة عبر التقليد والتلقين، وهي تحتاج إلى مراجعة ونقد يخلصها من تلك الأخطاء ويقيمها على أُسس صلبة، وطريقة هذا التخلص تتلخص في مبدأ الشك المنهجي العقلي الذي يتوجه إلى الأسس المعرفية من أجل تمحيصها بدقة، ثم إعادة بنائها من جديد. (مثال سلة التفاح)، وعملية الهدم وإعادة البناء تتطلب تحررا من كل القيود الحسية والفكرية التي تمنع من الانخراط في هذا الإنجاز. وفعل التوجه إلى الأسس يوفر على ديكارت ضياع الوقت والجهد في مراجعة الجزئيات، لهذا قرر رفض أية فكرة يعثر فيها على أدنى عنصر شك. وهذا واضح من قوله: "بما أن هدم الأسس يتلوه ضرورة انهيار بقية البناء كله، فإني سأوجه هدمي أولا إلى المبادئ المؤسِّسة التي كانت تستند إليها آرائي السابقة".

    2-- موقف غاستون باشلار: الحقيقة العلمية تتعارض مع الرأي 

    الحقيقة العلمية حسب غاستون باشلار "خطأٌ تم تصحيحه"، أي أنه لا توجد حقيقة مطلقة موضوعية لا في العقل (خلاف ديكارت) ولا في التجربة (خلاف برنار)، إذ الحقيقة في العلم نسبية متطورة تقبل النقد والمراجعة باستمرار، لأنها قد تختلط بالظنون والأوهام والآراء والإديولوجيا، ورأي العالِم أخطر من رأي عامة الناس. معتبرا أن الآراء مجرد معرفة عامية تُشكل العائق الأساس في طريق العلم، فهي التي تمنع من الصياغة الجيدة للمعرفة العلمية، بل تُحرف مسار العلم أحياناً. يقول غاستون باشلار: "الرأي تفكير سَيِّء، بل إن الرأي لا يفكر البتة، فهو يترجم الحاجات إلى معارف، وبتعيين الأشياء حسب فائدتها يمتنع عن معرفتها"، إذ يتم إخضاع المعرفة العلمية للمنفعة والمصلحة. ويستنتج باشلار مما سبق أن المعرفة العلمية تُبنى ولا تُعطى جاهزة، وأن تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه، فهو يتقدم باكتشاف الأخطاء وليس باكتشاف الحقائق. وأن وظيفة العقل العلمي هي إثارة المشاكل والأسئلة العلمية إذ لا جواب بلا سؤال... 

    المحور الثاني  : معايير الحقيقة

    كيف نستطيع التأكد من الحقيقة؟ كيف نُميزها عن غيرها؟ هل بعرضها على التجربة الحِسية أم بالبرهنة عليها عقليا؟ 

    1--موقف باروخ اسبينوزا: الحقيقة معيار ذاتها 

    في كتابه "علم الأخلاق" يرفض اسبينوزا أن يكون معيار الحقيقة من خارجها، إذ مَن ذا الذي يكون دليلا ومعيارا على الحقيقة التي هي نورٌ يفرض ذاته على كل من رآه. إن الحقيقة تدع في نفوسنا يقينا بصحتها بشكل لا يقبل الشك ولا يحتاج إلى التبرير أو البرهان، إنها بداهة ثابتة غير قابلة للتكذيب مادامت كل فكرة صحيحة تحمل يقينها وصحتها في ذاتها. يقول اسبينوزا: "ما هو الشيء الذي يمكنه أن يكون أشد وضوحا وبداهة من الفكرة الصحيحة حتى يكون معيارا للحقيقة؟ فكما أنه بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة أيضا إنما هي معيار ذاتها ومعيار للخطأ"... نعرف الحقيقة بالحقيقة.

    2-- موقف دافيد هيوم: الحقيقة العقلية والحقيقة التجريبية

    على خلاف موقف سبينوزا يرى دافيد هيوم أن الأفكار التي  يشتغل بها العقل البشري نوعان:

    - الأفكار البسيطة؛ وهي تلك الأفكار التي تأتينا عن طريق الحواس مباشرة فتُنتج حقائق مادية حسية تجريبية واقعية.

    - الأفكار المركبة؛ وهي الأفكار التي يُركبها العقل عن طريق الربط بين الأفكار البسيطة، مثل الأفكار الرياضية والهندسية والمنطقية (مثلا: الكل أكبر من الجزء، مجموع زوايا المثلث  180درجة...)، وتنتج حقائق عقلية صورية تجريدية.

    إذن فالحقيقة حسب دافيد هيوم نمطان، حقيقة مادية ومعيارها التجربة الحسية (أي ملاءمتها لموضوعها في الواقع)، وحقيقة صورية عقلية ومعيارها العقل والبرهان (أي خُلُوُّها من التناقض). في هذا الاتجاه يقول ليبنيتز: "هناك نوعان من الحقائق، حقائق تتعلق بالاستدلال العقلي، وحقائق تتعلق بالوقائع. حقائق الاستدلال العقلي حقائق ضرورية ونقيضها غير ممكن بل مستحيل، والحقائق المتعلقة بالوقائع هي حقائق محتملة ونقيضها ممكن".

    المحور الثالث  : قيمة الحقيقة 

    لماذا نطلب الحقيقة؟ أنريدُها لذاتها أم لفائدتها؟ أو بعبارة أخرى: هل الحقيقة غاية أم وسيلة؟ 

    1-- موقف ويليام جيمس: الحقيقي هو المفيد 

    يرى وليام جيمس أن قيمة الحقيقة ليست في ذاتها وإنما في مطابقتها للواقع، أي في ما تحققه من مصلحة ومنفعة فكرية أو مادية، ولا وجود لأية حقيقة متعالية ومعزولة عن مصالح الناس ورغباتهم، فهي مجرد وسيلة مرتبطة بطبيعة الحياة البشرية في تغيرها وصيرورتها، نستعملها من أجل بلوغ منافع واقعية عملية قابلة للقياس، يقول جيمس: "الحقيقة هي حدث يتم إنتاجه من أجل فكرة ما"، فالحياة هي الأصل الذي يتحكم في كل فعل أو فكر إنساني، وبالتالي فهي تتحكم في الحقيقة بدورها وليس العكس، ذلك أن "امتلاك أفكار صحيحة صادقة يعني على وجه الدقة امتلاك أدوات ثمينة للعمل"، وكل ما لا يقبل التحقق وفق مبدأ "المصلحة فوق كل اعتبار" لا يصح أن نعيره أي اهتمام، لأنها حيث ما كانت المصلحة العملية فتمة الحقيقة، لذلك وكما نُنتج الأشياء لننتفع بها في حياتنا فإننا ننتج الحقائق والأفكار لأنها نافعة، ويُلخص ذلك بقوله: "الحقيقي هو المفيد".

    غير أن دفاع ويليام جيمس عن هذا الموقف البراغماتي (النَّفعاني) سيؤدي إلى السقوط في النزعة الماكيافلية التي يلخصها المبدأ القائل: "الغاية تبرر الوسيلة"، وبناء عليه ينكر الفرد وترفض الجماعة كل حقيقة لا تقدم في شكل منفعة عملية قابلة للقياس، الأمر الذي سيحدث صراعا بين الذوات تبعا لتعارض المصالح وتضارب الغايات وابتذال الحقائق.

    2-- موقف ايمانويل كانط: الحقيقة واجب أخلاقي

    على النقيض تماما لما سبق يرى إيمانويل كانط أن: "قول الحقيقة أمرا واجبا أخلاقيا ...بعيدا عن أية اعتبارات تتعلق بسياقات تطبيقه"، أي أنه من الواجب على الفرد مثلما على الجماعة والإنسانية جمعاء الامتثال لصوت الواجب الأخلاقي كالتزام  كوني مطلق يفرضه العقل ويتعالى عن ميولاتنا وحاجاتنا وظروفنا ومصالحنا، يقول كانت: "الحقيقة واجب مطلق يسري في جميع الظروف والمناسبات". ومادامت الحقيقة غاية وليست وسيلة، فلا يجوز مثلا الكذب حتى ولو كان فيه عِتق رقبتنا من الموت، يقول كانط: "إن مَن يكذب مهما كانت نيته ومقاصده، يتعين أن يتحمل ويتقبل نتائج وتبعات كذبه، وأن يؤدي ثمن موقفه كيفما كانت النتائج"، فإذا كان الكذب قد يحقق مصلحة ذاتية فإنه مفسدة للإنسانية جمعاء لأنه انتهاك لحق الصدق وجق الاحترام الكونيين، وإذا ما أخضعنا الحقائف لمزاجنا وأهوائنا فإن هذه الحقائق ستفقد معناها وقدسيتها وتنتقل من حكم الواجب المطلق إلى حكم المباح، بل ستصير مبتذلة وغير محترمة.

    3-- موقف فريدريك نيتشه: الحقيقة وَهمٌ

     

    ينفي نيتشه وجود الحقيقة أصلا ويعتبرها مجرد وهمٍ تسرب إلى أذهاننا عبر الزمن وفرَض صلابته عبر اللغة والتقليد، لتشكل حشدا من الاستعارات والتشبيهات والكنايات، ومن أجل حفظ العيش وضمان السلم في عالم محكومٍ بالصراع يُروج الناس الأوهام في شكل حقائق مقدسة. يقول نيتشه: "إن رغبة الإنسان في أن يعيش مع الآخرين داخل المجتمع، تدفعه إلى مسالمة الغير...ويصاحب حالة المسالمة هذه ما يشبه الخطوة الأولى نحو اكتساب غريزة الحقيقة الغامضة، أي أن استتباب السِّلم يتم معه تتبيت وإقرار ما ينبغي أن يكون حقيقة". وعند البحث في جذور مفهوم الحقيقة نجدها –في نظر نيتشه- مجرد أمعاء منتفخة بالريح لا تصمد عند أول ضربة بالمطرقة. لذلك يقول نيتشه: "الحقائق أوهامٌ نسينا أنها أوهام" وعاشت معنا  هذه الأوهام لأنها صالحة للحياة ولا يمكن الاستغناء عنها بالنظر إلى نتائجها وليس بالنظر إلى ذاتها. فالناس لا يطلبون الحقيقة إلا ليحفظوا حياتهم وليس لأنها حقيقة، لذلك فهم يتوهمون كل ما يحفظ لهم الحياة حقيقة، والوهم أخطر من الخطأ  لأن الخطأ يمكن تصحيحه أما الوهم فيصعب تصحيحه أو التراجع عنه.

    مفهوم الحقيقة


    تعليقك
  • مفهوم الشخص               

       د. أحمد الفراك 

     


     

    ---------------

    مقدمة

    يتميز الوضع البشري بالتعقيد والغموض والتداخل، فالإنسان الفرد يحمل معه وعيه بذاته ككيان متفرد له خصائصه النفسية والوجدانية والاجتماعية، وتُنسب له مسؤولية أفعاله الصادرة عنه، كما أنه يأخذ قيمة خاصة عندما يُنظر إليه كذات واعية، حرة ومسؤولة لها كرامة تميزها عن جميع الموجودات الأخرى، تعي ذاتها وتعتز بقيمتها الأخلاقية، لكنها لا تلغي كونها حبيسة جملة من القيود الموضوعية التي يفرضها العالم الخارجي بلا هوادة. من هنا ينبع الإشكال المركزي التالي: هل الشخص مُعطى ذاتي أم مُعطى موضوعي؟ ومن هذا الإشكال تُطرح التساؤلات الآتية: كيف تتحدد هوية الشخص؟ ومم يستمد قيمته؟ وهل الشخص حر في بناء شخصيته أم أنه خاضع لمختلف الضرورات الخارجة عن إرادته؟ 

    المحور الأول: الشخص والهُوية

    1- موقف ديكارت: التصور الماهوي للهوية الشخصية (الفكر) 

    يرى ديكارت من خلَال فكرة "الكوجيطو" (الأنا أفكر) أن الهوية مسألة ذاتية تتعلق بالذات المفكرة، فهو يتساءل في تأملاته: قائلا: أي شيء أنا؟ ليجيب بأن حقيقة الذات تتمثل في كونها "شيء مفكر"، وهذا الشيء المفكر هو الشرط الضروري للوجود،  فالفكر وليس الجسم هو الذي يُحدِّد بشكل جوهري وأساسي هوية الشخص. إذ إن الذات تدرك هويتها إدراكا مباشرا بفعل التفكير الذي تُنجزه في لحظة الشك مادامت واعية بطبيعتها المفكرة التي تقابل عند ديكارت طبيعة الامتداد المميزة للجسم، والفكر هو مجموعة من الأفعال التي تشمل كُلًّا من "الشك" و"الفهم" و"الإثبات" و"النفي" و"الإرادة" و"التخيل" و"الإحساس" أيضا، وهي تُلَازِم طبيعة "الذات" وتُحدِّد ماهيتها وتميزها عن غيرها. فوراء هذه الأفعال جوهر قائم بذاته يصمد أمام عملية الشك وهو (الذات المفكرة). وبفضل خاصية "الفكر" تُعَدُّ "الذات" واعيةً تُدرِك نفسها بوصفها كيان متميز ومصدر للفعل تجاه العالم، وهكذا، فإن ديكارت يؤكد أهمية "الأنا" كمُعطى أوَّلي وكُلي في تحديد "هوية الشخص"، وذلك بما هي قُدرة على التفكير بشكل حر ومستقل. 

     2- موقف جون لوك: هُوية الشخص في وعيه وذاكرته (الوعي)

    يُعرف جون لوك الشخص: "كائن مفكر عاقل قادر على التعقل والتأمل وعلى الرجوع إلى ذاته باعتبار أنها مطابقة لنفسها، وأنها هي نفس الشيء الذي يفكر في أزمنة وأمكنة مختلفة"، ويرى أن ما يجعل الشخص "هو نفسه" (هو هو) وإن اختلفت الظروف، هو ذلك الوعي أو المعرفة التي تصاحب جميع أفكاره وأفعاله وحالاته الشعورية الخاصة؛ من تذوق وسمع وإحساس وإرادة، من حيث لا ينفصل فعل الوعي عن فعل التفكير، وهذا الاقتران هو ما يحدد وحدة الشخص وتميزه عن غيره، فلا يمكن للكائن المفكر أن يُدرك دون أن يعرف أنه هو نفسه الذي يدرك، وبالتالي فـ "الهوية الشخصية" ناتجةٌ عن أفعال التفكير والإحساس في تكرارها وتَعَوُّدها، تضاف إليها الذاكرة التي تربط الخِبرات الشعورية الماضية بالخِبرة الحالية، مما يعطي لهذا الوعي استمرارية في الزمان. وباختصار فالهوية الشخصية تكمن في فعل الوعي، وعندما يتعلق الأمر بالماضي يصبح الوعي ذاكرة كما أن الهوية لا تقوم في أي جوهر مادي كان أو عقلي، ولا تستمر إلا مادام هذا الوعي مستمرا. 

    3- موقف سيجموند فرويد: هُوية الشخص لاشُعورية (اللاوعي) 

    على عكس الموقف السابق ليس الوعي الذي يدافع عنه ديكارت وجون لوك سوى الجزء السطحي من الشخصية، هذه الأخيرة التي هي عبارة عن بنية مركبة نشيطة تتشكل من ثلاثة عناصر متصارعة على نحوٍ مستمر، هي العنصر الشهواني (الهو: مجموع الرغبات والغرائز)، والعنصر العقلاني (الأنا: العنصر المسؤول عن التوفيق والتوازن)، والعنصر الأخلاقي (الأنا الأعلى: عنصر الرقابة الأخلاقية والقانونية والسياسية)، وطبيعة الصراع تتحدد بصورة لا شعورية، لا يعيها الشخص ولا يملك القدرة على التحكم فيها، إنه عاجز تماما عن  الوعي بهويته وتكوين شخصيته. فاللاشعور هو الجانب الأوسع والأعمق في شخصياتنا وهو المسؤول عن جميع اختياراتنا ومواقفنا وسلوكاتنا، حيث يتواصل أثره وتحكُّمه فينا ليلا ونهارا، نوما ويقظة.

    بهذا يكون التحليل النفسي قد تجاوز التصور الماهوي الثابت لهوية الشخص إلى تصور سيكولوجي يرهن الهوية باللاشعور.

    4- موقف جي روشي: التنشئة الاجتماعية

          يرى جي روشي (Guy Rocher) أن الفرد محتاج بشكل كبير إلى المجتمع لاكتساب صفاتٍ لا يمكنه بدونها أن يمارس حياته بوصفه كائنا اجتماعيا، وبسبب هذا الاحتياج فإن الفرد يخضع لما يسمى بحتمية التنشئة الاجتماعية بوصفها عملية تطورية بواسطتها يقوم الشخص طوال حياته بتعلُّم واستبطان كيفيات الإحساس والتفكير والسلوك، واكتساب المعطيات الاجتماعية والثقافية لمحيطه لكي يدمجها في بنية شخصيته حتى يتكيف مع الوسط الذي يعيش فيه. فعمليات التنشئة تُدمج الفرد في مؤسسات المجتمع لتتشكل هويته النفسية والاجتماعية والمزاجية عبر آليات: التكيُّف والتقمص والاكتساب والتوافق، حتى يصير "الأنا" قطعة من "النحن"، وهو ما يُسهل اندماجه مع باقي الأفراد داخل المجموع وتقمُّصه للأدوار المحددة سلفاً، فيعبر عن النمط الثقافي للجماعة، بل يتبنى ويدافع عن نفس القيم والمعايير والمثُل السائدة فيها. ولا تقف التنشئة الاجتماعية عند حد هذا التطبيع السلوكي وإنما تتجاوزه إلى ما يسمى بـ"القولبة الذهنية" أي شحن ذهن الفرد وعاطفته "بمقولات عقلية وتمثلات وصور ومعارف وأفكار مُسبقة وقوالب جاهزة ، وباختصار طرق للتفكير لا يمكن للذكاء بدونا أن يتبلور وينمو وينتج". فيستدمج الفرد ثقافة مجتمعه حتى  تصير الأساليب التي لُقنت له وفرضت عليه، عفويةً يتبناها هو نفسه وكأنها صادرة عن إرادته الحرة. وفي نفس الوقت هذا هو ما يضمن وحدة المجتمع ويجنبه التفكك والانقسام.  

     

    المحور الثاني: قيمة الشخص

     1- موقف إيمانويل مونييه: الشخص ذات وليس أداة  

               يرى أنصار المذهب الشخصاني أن الشخص ليس موضوعا مثل باقي الموضوعات الخارجية وإنما هو كينونة نفسية متفردة تتميز بالوعي والإرادة، إذ يستحيل تعريف الشخص أو النفاذ إلى عمق ذاته، يقول مونيي: "إن الشخص ليس موضوعا، بل هو بالذات ما لا يمكن في أي إنسان أن يُعامل بوصفه موضوعا"، أي أن كل شيء من أشياء العالم الخارجي يمكن تعريفه والإحاطة به إلا أن يكون شخصًا، لأن الشخص يتمنَع عن المعرفة مهما حصلنا إزاءه من معلومات حول مِزاجه وهيئته وأعراضه، إنه يحتفظ بذاتيته دون إدراك الغير، وهذا الأخير لا يستطيع معرفة "الأنا" كما هوَ، ولا أن يُعبِّر عنه في كُلِّيته ولا أن يتفهمه في حقيقته. أو بعبارة موجزة: قد نعرف عن الشخص لكننا لا نستطيع معرفة الشخص، ذلك أن ثروة  الشخص لا نهائية. فلا شيء مما يعبر عنها يستنفِدها ولا شيء مما يشرطها يستعبدها...إن الشخص نشاطُ حركةِ شَخْصَنةٍ مناهضة لكل التحديدات.

    2- موقف إيمانويل كانط: الشخص غاية في ذاته (فطرية) 

    تنقسم الموجودات في الكون إلى قسمين: قسم الموجودات العاقلة، وقسم الموجودات غير العاقلة، فالموجودات العاقلة وحدها تنفرد بقيمة مطلقة وتستحق أن تُسمى أشخاصا لأنها تمتلك العقل، بينما باقي الموجودات فليست لها سوى قيمة استعمالية نسبية مادامت تفتقر إلى العقل، وتسمى: أشياءً، الأولى تنفرد بوضع اعتباري متعالي ومقدس لا يقبل الاستغلال أو الاستبدال من أجل مصلحة ما كيفما كانت، والثانية تُوضع بطبيعتها وسيلة من أجل خِدمة الإنسان الذي هو غاية في ذاته يستحق التقدير والاحترام لكرامته الآدمية وليس لامتلاكه الأشياء. يقول كانط: "تصرَّف دائما بطريقة تُعامل بمقتضاها الإنسانية في شخصِك، كما في شخصِ غيرك، باعتبارها غاية وليس أبدا باعتبارها وسيلة". إن الشخص غاية في ذاته منذ ولادته إلى وفاته، وليس موضوعا أو وسيلة تخضع للاستعمال ثم تنتهي صلاحيتها. لذلك فقيمة الإنسان لا تُقدر بثمن ولا تقبل التوظيف من أجل مصلحة إرادة أخرى، بل يجب عليه أن يعي الخاصية السامية لتكوينه الأخلاقي فيحترم الإنسانية في شخصه ويفرض احترامها على الجميع.

    3- موقف فريدريك هيجل: قيمة الشخص في أدائه للواجب (مكتسبة)

     على خلاف الموقف الأخلاقي لإيمانويل كانط يرى هيجل أن قيمة الشخص لا تولد معه ولا يصنعها بإرادته، وإنما يكتسبها فيما بعد من خلال امتثاله لروح الجماعة التي ينتمي لها مستمدة من أدائه للواجب القانوني والأخلاقي الذي تحدده تشريعات المجتمع. فالتصرفات الصالحة هي التي تكون موافقة للقانون المجتمعي، والتصرفات الشائنة هي المنافية له. لذلك على الشخص أن ينفتح على الجماعة وأن يمتثل للواجب الذي تلزمه به، إذ المجتمع يتكون من مجموعة مراتب شبيهة بنظام الطبقات الاجتماعية، وبحسب كل مرتبة يتحدد للفرد الواجب الذي ينبغي القيام به، يقول هيجل: "المرتبة التي يشغلها فرد ما تحدد واجباته"، فتتحدد قيمة الفرد الأخلاقية بحسب أدائه لواجبه من خلال المرتبة التي ينظمها المجتمع. وبالتالي فهي قيمة مكتسبة ونسبية ومتغيرة.

    المحور الثالث : الشخص بين الحتمية والحرية

    هل الشخص حرٌّ في تفكيره وسلوكه أم أنه خاضع لحتميات موضوعية تلغي حريته؟

     1- موقف باروخ اسبينوزا: لا حرية للشخص 

    انسجاما مع التصور الموضوعي الذي يعتبر الشخص مجرد انعكاس ونتيجة لإكراهات وضغوط موضوعية متنوعة: بيولوجية، اجتماعية، وراثية، ثقافية، اقتصادية وسياسية، يرى باروخ اسبينوزا أن الشخص ليس ذاتا حرة، بل هو نتاج ضرورات وحتميات خارجية، حيث شَبَّه دعوى حرية الإنسان بدعوى حرية حَجرة متدحرجة نتيجة دفعة من خارج، أي بسبب قوة خارجية مُحرِّكة وليس اختيارا مِن ذاتها. وفعل الحركة لا يصح أن ننسبه للحجرة وإنما ينبغي أن ننسبه للسبب الخارجي، وبناء على افتراض وعي الحجرة بحركتها وبذلها للجهد كي تستمر في هذه الحركة تظن وتتوهم أنها حرة وأنها تتحرك من تلقاء ذاتها. كذلك الذين يتبجحون بامتلاك الحرية لمجرد أنهم واعون بشهواتهم فهم – حسب اسبينوزا- يجهلون الأسباب الخارجية التي تحددهم حتميا. وإلا هل يُقبل أن نعتبر الطفل الذي يبكي طلبا للحليب حرا في اشتهائه أو الجبان الذي يهرب من المواجهة حرا في فراره؟ ولماذا غالبا ما نعرف الأحسن ونقترف الأسوأ؟ إن الحرية مجرد وهمٍ وادعاء.

     2- موقف العلوم الانسانية: تدويب الإنسان في حتميات تتجاوز وعيه وتلغي حريته 

    بانفصالها عن الفلسفة خلال النصف الثاني من القرن 19 توجهت العلوم الإنسانية إلى دراسة الإنسان فجعلت منه موضوعا للمعرفة بعدما كان ذاتا عارفة، وفضحت ضُعفه لما اكتشفت أنه مجرد صورة منعكسة عن المحددات الموضوعية المحيطة به، فهو عند علماء السوسيولوجيا (جي روشيه) جزء لا يتجزأ من ثقافة المجتمع الذي ينتمي إليه، أي أنه نتيجة حتمية لعمليات التنشئة الاجتماعية التي تُلقنه كيفية الإحساس والتفكير والتصرف وتُدمجه في مؤسسات المجتمع لتتشكل هويته النفسية والاجتماعية والمزاجية عبر آليات: التكيُّف والتقمص والاكتساب والقولبة الذهنية، حتى يصير الأنا قطعة من "النحن"، وهو عند علماء الاقتصاد (على الأقل في التصور الماركسي) جزء من البنية المادية للمجتمع تصنعه الظروف الاجتماعية والاقتصادية، وإذا فكر أو عبَّر فإنما يفكر ويعبر انطلاقا من واقعه الذي يعيش فيه، وهكذا باقي فروع العلوم الإنسانية (اللغة، علم النفس، البيولوجيا، التاريخ...) حتى أضحى الإنسان شبحاً بلا معنى، وآلة تُشحن وتُستعمل، فانمحت هيبته وكأنه كان مرسوما من الرمال (حسب تعبير ميشيل فوكو)، وظهرت أصوات تعبر عن هذا الذوبان والاختفاء بمثل عبارة "موت الإنسان" التي تلخص فقدانه لتلك الهالة من التحرر التي كان يَدَّعيها ويزعُمها لما قيل عنه "الإنسان مقياس كل شيء" قبل أن تُنتزع منه ويفقد سمعته.

     

       3- موقف جان بول سارتر: الإنسان محكوم عليه بالحرية

    على خلاف المواقف السابقة يؤكد سارتر أن الإنسان كائن يصنع ذاته بذاته، يعيش بذاته ولذاته، ذاتٌ حرة ومنفتحة على إمكانيات لا نهائية، لأن هويته لا تتحدد بشكل مسبق وإنما بالمشروع الذي يختاره هو لنفسه ويعيشه بكيفية ذاتية في المستقبل، حيث يوجد أولا ثم يكون إنسانا فيما بعد بواسطة الأنشطة التي يمارسها مادام وجوده سابق لماهيته، فيختار مثلا بمحض إرادته الانتساب إلى أحد الأحزاب أو تأليف كتاب أو الزواج، إنه الكائن الوحيد الذي يتميز بالتعالي على وضعيته الأصلية وهو مسئول مسؤولية كاملة عما هو كائن، إذ بواسطة الفعل والحركة يستطيع أن يختار ماهيته بنفسه فيصنع الرجل الذي يريده، وبالتالي مشروعه الذي يريد، يقول سارتر: "الإنسان مشروعٌ لا يوجد في سماء المشروعات مشروع مثله". لهذا انتقد المنهج الذي يختزل الإنسان في بُعد واحد مطلق، لأنه  يغفل  أبعاد حقيقية أخرى تحدد ماهيته، ويدافع سارتر عن حرية الإنسان لكونها تشكل جوهر وجوده وأساس الغايات من هذا الوجود، وبناء على حريته يتحمل مسؤولية أفعاله، يقول سارتر "إن البطل هو الذي يصنع من نفسه بطلا، والجبان هو الذي يصنع من نفسه جبانا"، وهذا لا يعني غياب الضرورات الموضوعية كُلية وإنما يعني أن الإنسان يحتفظ بالقدرة على التجاوز لوضعه وصناعة الذات وإثبات الحرية مهما كانت الظروف والإكراهات، أو بعبارته المختزلة لموقفه: "الإنسان محكوم عليه بالحرية".

    4- موقف محمد بن رشد : الحرية في مواتاة الأسباب الداخلية والخارجية

     

           ردا على التصورين المتناقضين بين القول بالحرية (القدَرية) والقول بالحتمية (الجبرية)، يرى ابن رشد أن الله تعالى خلق في الإنسان القدرة على اكتساب أفعاله بنفسه، أي وهَبه الحرية في الاختيار بين فعل الخير وفعل الشر، ليكون قادرا على اختيار أفعاله ومواقفه، إذ على اختياره الإرادي تترتب مسؤوليته على تلك الأفعال، لكن حريته كما يؤكد ابن رشد ليست مطلقة وإنما هي نسبية رهينة بضرورة مواتاة الأسباب الخارجية (نظام الكون) التي تجري على نظامٍ محدود ومُقدر يستحيل إلغاؤه أو تجاهله، والأسباب الداخلية (قدرات البدن)، حيث يقول: "إن الله تبارك وتعالى قد خلق لنا قوى نَقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يَتِمُّ لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتِمُّ بالأمرين جميعا"، أي بالحرية والخضوع للأقدار الكونية في نفس الوقت، فليست الأسباب الخارجية وحدها التي تحد حرية الفرد بل أيضا الأسباب الداخلية ( أي حدود قدرة البدن). لتكون الحرية الإنسانية مشروطة بالحتميتين معا؛ قوانين الكون وقوة الجسم. 

     -----------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     


    3 تعليقات
  •           النظرية والتجربة        

    د. أحمَـد الفـراك 

    النظرية والتجربة


       

                    تقديم : 

     

     ينقسم النشاط البشري إلى قسمين اثنين؛ نشاط عقلي معرفي، ونشاط واقعي عملي، فالأول يوفر للثاني المعنى والمعقولية، والثاني يمد الأول بالمادة والمضمون، وهما نشاطان متكاملان، الغاية منهما معرفة الحقيقة سواء أكانت حقيقة الذات أو حقيقة الموضوعات الخارجية. وبناء على علاقة المعرفة بالحقيقة تتبلور مجموعة من الإشكالات الفلسفية تطال القضايا المتعلقة بمفاهيم:  النظرية، التجربة، العلمية، الموضوعية، الحقيقة...، ولعل من أهمها مفهوم النظرية، حيث يعرفه أندري لالاند في معجمه الفلسفي بقوله: "النظرية إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ"، وهي تختلف عن المعرفة العامية بكونها معرفة علمية منظمة، وعن المعرفة اليقينية بكونها معرفة افتراضية، وعن المعرفة المنفعية بكونها معرفة خالصة، وعن المعرفة الجزئية التفصيلية بكونها معرفة كلية. يقول كابلان: "النظرية بناء فرضي رمزي يتضمن مجموعة من القوانين التجريبية والمتسقة منطقيا حيث كل قانون يستنتج مباشرة من القانون السابق عليه ويفسر الواقعة عن طريق ربطها بمجموعة من الوقائع". 

    ومن بين الإشكالات الابستمولوجية التي طرحت بهذا الصدد نذكر الإشكالات التالية:

    - هل تأسس النظرية العلمية على التجربة؟ وما هي خصائص المنهج التجريبي في بناء المعرفة العلمية؟

    - هل يمكن الحديث عن صفة العقلانية في العلوم التجريبية على غرار العقلانية الفلسفية؟ وإذا كانت ممكنة فكيف يمكن تحقيقها؟ وهل باستطاعة العقل أن يستغني عن التجريب ويبدع نظريات علمية غير تجريبية؟

    - كيف نتحقق من سلامة النظرية العلمية؟ أو قلْ: ما هي معايير البث في صدقية النظريات العلمية؟ 

     

    المحور الأول : التجربة و التجريب

     

    ما هي خصائص المنهج التجريبي وقيمته في بناء المعرفة العلمية؟ وكيف تطور هذا المنهج؟

     

     1-  موقف كلود برنار (التصور التجريبي التقليدي): المعرفة إنصات للطبيعة  

     يعتبِر كلود برنار أنه لا سبيل إلى المعرفة العلمية إلا عبر المنهج التجريبي الذي يتطلب من العالِم الجمع بين شرطين منهجيين ضروريين: أولهما، قدرته على الجمع بين الملاحظة والتجربة واقتراح الفرضيات، وثانيهما أن يكون حذِرا من الوقوع في الملاحظة الجزئية والمستعجلة لأن التساهل في الملاحظة يؤدي إلى تشويه إدراك الظاهرة المدروسة، إما بإهمال بعض أجزائها أو بتعميم بعضها على بعض. لهذا يرى كلود برنار أنه "على الملاحِظ أن يكون إذن أثناء معاينته للظواهر بمثابة آلة تصوير تنقل بالضبط ما هو موجود في الطبيعة، حيث يجب أن يلاحظ دون فكرة مسبقة وعليه أن يصمت وأن ينقل كل ما تمليه عليه الطبيعة"، متخلصا من الذاتية، لكن هذا الإملاء وهذا الإنصات لا يتم اعتباطا وإنما يتحقق باتباع الخطوات التالية التي توفر له القدرة على الجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية:  

     1-- الملاحظة الواقعية الدقيقة  

    2-- ميلاد الفرضية في الذهن(جواب احتمالي) تبعا للملاحظة / المعاينة.  

    3-- العودة إلى الواقعة من أجل تجريب مدى صدق الفرضية. 

    4-- الاستنتاج، وهو ثمرة العمل التجريبي الذي تتأسس عليه ملاحظات جديدة.

     

      2- موقف روني توم:  (التصور التجريبي المعاصر): الممارسة التجريبية والخيال 

     يميز روني توم بين مصطلح "منهج" ومصطلح "فعالية"، فينسب الأول لفلسفة ديكارت (المنهج الشكي)، ويربط الثاني بالممارسة التجريبية، ويعتبر أن الجمع بين المنهج والتجربة كالجمع بين المتناقضات التالية: (ثلجٌ محرق، نارٌ متجمدة)، لهذا يرفض توم استعمال كلمة منهج في العمل التجريبي، ويستعمل عوضا عنها مفهوم الفعالية التجريبية أو الممارسة التجريبية، والتي قد تكون لها أصول سابقة عن العلم وعن المنهج، ويمكن أن تستعين بالخيال في إقامة تجربة ذهنية تعالج نقائص التجربة العادية، يقول روم توم: "التجريب وحده عاجز عن اكتشاف أسباب ظاهرة ما ففي جميع الأحوال ينبغي إكمال الواقع بالخيال".

     ومن أجل ممارسة تجريبية يؤكد توم على وجوب احترام الإجراءات التالية:  

    1-- عزل المجال المراد دراسته: تحديد الموضوع والزمان والمكان بدقة. 

    2-- إعداد المجال: توفير عناصر الموضوع المدروس ( مواد الاختبار)  

    3-- القيام بالتجربة: أي تسليط أدوات البحث على الموضوع المبحوث بدقة. 

    4-- تسجيل النتيجة: بصيغة دقيقة قابلة للقياس وتستجيب للنسق المدروس...  

    و رغم المرور من هذه الإجراءات فإن الواقعة التجريبية وحدها لا تؤسس واقعة علمية إلا إذا حققت المطلبين التاليين:

    -  أولا: قابليتها للتكرار، أي تقبل إعادة الإنشاء في مجالات زمانية ومكانية مختلفة. 

    - ثانيا: أن يكون لها أثر مادي في حياة الناس(منفعة)، وأثر نظري في تطور العلم(إضافة نوعية). 

      

    المحور الثاني: العقلانية العلمية 

    هل يمكن الحديث عن صفة العقلانية داخل العلم؟ 

                     1- موقف هانز رايشنباخ: المعقولية العلمية 

     ترى المدرسة الوضعية أنه لا يصح استعمال مفهوم "العقلانية العلمية" في مجال العلوم التجريبية، إذ العقلانية مذهب فلسفي مثالي مجرد يعتبر العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة في حين أن التجربة هي مصدر كل معرفة علمية. ولكنَّ رفض استخدام مصطلح العقلانية العلمية لا يعني إبعاد العقل عن العلم أو اعتبار المعرفة العلمية غير عقلية، ذلك أن المعرفة التجريبية تقتضي "استخدام العقل مُطبقا على مادة الملاحظة"، أي استعمال العقل خلال القيام بالممارسة التجريبية لا منفصلا عنها. وهذا ما يسميه رايشنباخ بـ"المعقولية العلمية". وبناء عليه يؤكد أن الانصراف إلى المعرفة العقلية بعيدا عن التجربة والملاحظة لا يؤسس أية معرفة علمية بقدر ما ينتج أبنية عقلانية مثالية تشبه "النـزعة الصوفية" الحدسية التي ترى الحل في الانفصال عن الواقع، يقول راشنباخ: "عندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة لا تعود بينه وبين النـزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة".

                     2- موقف غاستون باشلار: العقلانية المُطبَّقة 

    لا يعترض غاستون باشلار على استعمال مفهوم العقلانية في المعرفة العلمية مادامت قابلة للتحقق متى استطاعت العلوم الفزيائية أن تُقيم جمعًا دقيقًا ووثيقًا بين العقل والتجربة، إذ يلزم العالِم الفيزيائي بناء معرفة علمية  بيقين مزدوج: 

    1- اليقين بوجود الواقع في قبضة العقل، أي عقلنة الواقع حتى يستحق تسمية "واقع علمي". 

    2- اليقين بانتماء الحجج العقلية إلى خصائص المنهج التجريبي.  

    فبشلار ينفي إمكان قيام معرفة على أحد شرطي البحث الفزيائي منفصلا عن الآخر، العقل أو التجربة، قائلا: "لا توجد عقلانية فارغة كما لا توجد مادية عمياء". متجاوزا ذلك الصراع التقليدي بين المدرستين العقلانية والتجريبية. ومؤسسا لتصور ابستمولوجي معاصر لا يقبل العقلانية إلا مُطبَّقة ولا المادية إلا مَبْنِية. أي إخضاع العقل للتجربة وإخضاع التجربة للعقل. فإذا كان أنصار الاتجاه التجريبي يُعوِّلون على التجربة وحدها لتحقيق معرفة علمية فإن باشلار يضيف إلى شرط التحقق التجريبي شرط اليقين العقلي، حيث يجب على العالِم الفزيائي أن يجمع في بناء نظريته العلمية بين التجربة والعقل في آن واحد.

    لكن الزلزال الذي أحدثته التطورات المعاصرة في العلم والتقنية أسهم في إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم العلمية بما فيها مفهوم الواقع نفسه الذي أضحى واقعا افتراضيا. مما أعاد طرح إشكال التحقق من صدقية النظرية العلمية من جديد.

     

    المحور الثالث: معايير علمية النظرية العلمية 

     

    بتطور المعرفة العلمية وما رافق هذا التطور من تجاوز النظريات العلمية لبعضها البعض عَبْر مراجعتها ونقدها والانقلاب عليها أحيانا -كما يرى طوماس كوهن-، حيث ظل العلم مختلطا بأمور غير علمية، تيَسر طرح السؤال التالي:  كيف نتحقق من سلامة النظرية العلمية؟ أو قلْ: كيف يتم البث في صدقية النظرية العلمية؟ وما الفرق بين نظرية علمية ونظرية غير علمية؟ 

                   1-  الموقف التجريبي: معيار التحقق التجريبي 

     يتحدد معيار التحقق من صِدقية النظرية العلمية في نظر المدرسة التجريبية (فرنسيس بيكون، كلود برنار، بيير دوهيم، روني توم،...) في قابليتها للتحقق التجريبي، مادامت النظرية أصلا هي صورة ناسخة لموضوعات الواقع التجريبي، حيث التجربة هي منبع النظرية ومِحكها ووسيلة بيان صدقها مِن كذبها، ولا يصح نعث معرفة ما بصفة "العلمية" ما لم تخضع للفحص التجريبي، وكل تجاوز لهذا الشرط فهو خروج من العلم وارتماء في أحضان الأسطورة والمعرفة الخيالية والمثالية المجردة. أما العقل وحده فهو مجرد أطر فارغة بلا معرفة.. 

                    2- موقف ألبرت انشطاين: معيار العقل أو التماسك المنطقي 

    أسهم الزلزال الذي أحدثته التطورات العلمية المعاصرة في إعادة النظر في مجموعة من المفاهيم العلمية بما فيها مفهوم الواقع نفسه الذي أضحى واقعا عقليا افتراضيا. مما أعاد طرح إشكال التحقق من صدقية النظرية العلمية من جديد، وفي هذا الإطار يؤكد إنشطاين أن النظريات العلمية المعاصرة فرضت عِلميتها بمعيار العقل والتماسك المنطقي، إذ العقل وحده كافٍ في التحقق من صدقية النظريات العلمية دون عرضها على التحقق التجريبي، فهو الذي يمنح النسَق العلمي بِنيَته. وحُجة انشطين هي أن المفاهيم والمبادئ التي يتكون منها النسق النظري للعلم (فيزياء، رياضيات، منطق...) هي إبداعات حرة للعقل الرياضي المجرد، لأن "المبدأ الخلاق الحقيقي يوجد في الرياضيات"، وهذه الإبداعات الحرة التي تشكل الجزء الأساس من النظرية العلمية، لتبقى التجربة بمثابة مرشد في وضع بعض الفرضيات وفي تطبيقها تجريبيا. يقول صاحب نظرية النسبية: "لا يمكن استنتاج القاعدة الأكسيومية للفيزياء النظرية انطلاقا من التجربة، إذ يجب أن تكون إبداعا حرا". أي أنه أصبح بإمكان الفيزياء المعاصرة أن تستغني عن التجربة.       

                     3- موقف كارل بوبر: معيار القابلية للتكذيب 

    أقدم الفيلسوف النمساوي كارل بوبر سليل مدرسة فيينا، على قلب الطاولة على الوضعيين، حيث لا تستحق في نظره  النظرية صفة العلمية بمجرد خضوعها للتجربة، وإنما بقابليتها للتزييف، أي أن العالِم ملزم بتقديم الاحتمالات الممكنة لتكذيب نظريته وإبراز إمكانات هدمها وتجاوزها لأنها لا توجد نظرية علمية مطلقة، بعبارة أخرى لا تكون النظرية علمية إلا إذا كانت فروضها قابلة للتفنيد والدحض، وإلا فإن "النظرية التي لا تتوخى اكتشاف العيب فيها هي نظرية غير قابلة للاختبار العلمي، يقول كارل بوبر: "لا يعتبر أي نسق نظري نسقا اختباريا إلا إذا كان قابلا للخضوع للاختبارات التجريبية ... إن قابلية التزييف وليست قابلية التحقق هي التي ينبغي أن نتخذها معيارا للفصل بين ما هو علمي و ما ليس علميا". فاختبار النظرية العلمية يُشبهه "كارل بوبر"  بـ"اختبار جزء من آلة ميكانيكية، بمحاولة تبيُّن العيب فيها" وذلك عبر المراحل الأربع التالية: 

    1) مرحلة التحقق من السلامة الداخلية للنسق النظري . 

    2) مرحلة تحديد الصُّورة المنطقية للنظرية وبيان ما إذا كانت تجريبية أو غير تجريبية . 

    3) مرحلة المقارنة بين النظرية المدروسة وباقي النظريات العلمية حتى نعرف بأنها نظرية جديدة

    4)  مرحلة القيام بتطبيقات تجريبية على بعض نتائج تلك النظرية.  

    ..................................

    --------------------------

    بريد التواصل:   elfarrak@gmail.com


    تعليقك
  • مفهوم الغير      

    د. أحمد الفراك

    مقدمة:

    رغم ما يشعر به الشخص من استقلال وذاتية فإن وجوده لا يتحقق إلا في وسط تتداخل فيه وتنتمي إليه الذوات والأفكار والمواقف، وبالتالي فهو مضطر إلى تحديد موقفه مِن وجودِ مَن يتقاسم معه هذا الوسط، أي الغير الذي هو شخص آخر، أو "الأنا الذي ليس أنا" بتعبير سارتر. إن الأنا محتاج دوما إلى الآخرين لكي يوجد ولكي يعرف ولكي يتواصل، فكيف ينظر هذا الأنا إلى غيره؟ وما ذا يمثل وجود الغير لوجود الشخص؟ وهل وجوده ضروري؟ وهل يستطيع الأنا معرفة الغير؟ إذا كان ممكنا فكيف؟ وإذا كان مستحيلا فما المانع؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربطه معه؟ هل هي علاقة كراهية ومواجهة وصراع(سلبية)؟ أم علاقة مودة واحترام وصداقة(إيجابية)؟

     

    المحور الأول: وجود الغير

    ماذا يمثل وجود الغير لوجود الذات؟

    1-         موقف رينيه ديكارت: لامبالاة بالغير

    انطلاقا من فكرة الكوجيطو "أنا أفكر إذن أنا موجود" يرى ديكارت أن الوجود مسألة ذاتية وأن الشيء الوحيد الذي يحصل اليقين بوجوده هو الذات المفكرة، التي تشك وتتأمل وتفكر، أي أن الأنا أفكر تشكل حقيقة بديهية يقينية لا يطالها الشك والتغير، ولا تحتاج إلى وجود خارجي يمثل وساطة إثبات ذاتها، فهي  وحدها تمارس فعل التفكير في ذاتها وفي العالم، وكل ما عدا ذلك فهو يدخل في خانة الشك. إن ديكارت لا يُهِمُّه وجود الغير ولا عدم وجوده من أجل إثبات وجوده الذاتي، لأن تجربة "الأناوحدية" تؤكد استغناء الذات المفكرة بنفسها عن الغير، يقول ديكارت: "أُطِلُّ من النافذة فلا أرى سوى قبعات ومعاطف ولا أرى أشخاصاً". بناء على ما سبق لا يحظى الغير بأي اعتراف من طرف فلسفة ديكارت، إنه يُهمله ولا يبالي به ولا يرى في وجوده أية ضرورة.

     

    2-         موقف جان بول سارتر: ضرورة وجود الغير

        إن الغير حسب سارتر حاضر باستمرار باعتباره ذاتا مماثلة للأنا، فهو "الأنا الذي ليس أنا"، يُشبهني ويختلف عني بشكل متآنٍ، يتحدد وجودي مع وجوده، مثلما أن معرفتي بذاتي تتوقف على وجودهإنَّ الغير هو الوسيط الذي لا غنى لي عنه إلا من جهة المستحيلفلا أُوجد إلا بشرط وجوده، ولولاه لما كنتُ أنا أنا، فهو الذي يمنح وجودي المعنى، غير أنه بعيد عني ومستقل بذاته، يحتفظ كلٍّ منَّا بأناه، إنه نظام مُركب من التمثُّلات الذهنية والنفسية التي تجعله كموضوع يصنعه الأنا ولا يعرفه. إنني أراه فقط من منظاري الخاص، أي انطلاقا من تجربتي الشخصية، وبنفس النظرة أيضا هو يُحددني كموضوع بين موضوعات كثيرة انطلاقا من تجربته الخاصة، والحقيقة هي أنه لا أنا ولا هو باستطاعتنا أن ننفذ إلى عمق ذوات بعضنا لأن بيننا هوة سحيقة تمنع تحقق أية علاقة حقيقية بيننا، فهناك عدمٌ محض يفصل بيني وبين الغير، لا يستمد أصوله من ذاتي أنا ولا من ذات الغير، بمعنى أن هناك غياب كُلي موضوعي لأية معرفة ممكنة. ومثال ذلك تجربة الخجل باعتباره "خجل من الذات عندما تتبدى أمام الغير". 

     

     3- موقف فريدريك هيغل: الغير ضروري للاعتراف بي 

          إذا كان جوهر الحياة البشرية هو الصراع فإن منطق الصراع يفرض المواجهة بين طرفين متنازعين يسعى كل منهما إلى الظَّفر بالانتصار، ولما كان من غير الممكن أن ينتصرا معا فإن كُلا منهما يُبدي استعداده الكامل للتضحية بنفسه وبكل ما يملكه حتى ولو كلفه ذلك الموت ليتغلب على خصمه في المعركة وينال شرف السيادة، بيدَ أنَّ منطق المواجهة يفرض استسلام أحدهما أمام الآخر، فيصير المغلوب عبداً معترفا للغير الغالبِ بسيادته. لهذا يعتبر هيجل أن وجود الغير ضروري لإخراج الأنا من ذاته وتحقيق وعيه الذي يتوقف على اعتراف الغير له بسيادته، وبالتالي تجاوز حالة الانغلاق على الذات بالانفتاح على الآخرين، وإنتاج وإعادة إنتاج العلاقة الجدلية: سيادة- عبودية، فلا يوجد الشخص شخصاً وإنما يوجد إما سيداً أو عبداً. 

     

    المحور الثاني: معرفة الغير

    هل يمكن معرفة الغير؟ وإذا كانت معرفته ممكنة فكيف تتحقق؟ وإن لم تكن ممكنة فهل المانع من حصولها ذاتي أم موضوعي؟

     

    1-         موقف نيكولا مالبرانش: صعوبات معرفة الغير

    واضح من موقف جان بول سارتر أنه بالرغم من تأكيد وجود الغير فإن معرفته في ذاته مستحيلة وكل محاولة في اتجاه التعرف عليه هي بمثابة خطوة نحو تشييئه وتحويله إلى موضوع، والمانع من هذه المعرفة ليس هو أنا ولا هو الغير وإنما هو مُعطى موضوعي غير قابل للتحدد أو للتجاوز. ونفس التصور يؤكده مالبرانش من خلال حديثه عن الموانع والصعوبات التي تحُول دون معرفة الغير، والتي يمكن تلخيصها في انفعالات ومشاعر الذات العارفة. إن كل ما نعرفه عن الآخرين مرتبط بتمثلاتنا الشخصية التي تنبع من وضعيتنا النفسية والاجتماعية والثقافية، يقول مالبرانش: "إن أقصى ما يمكننا الوصول إليه هو محاولة إطلاق فرضيات"، أي تخمينات وظنون وشكوك مُشبعة بالذاتية، مرتبطة بذواتنا وبانفعالاتنا، لكننا لا نتصل بذات الغير كما هو في حقيقته. وهذا يعني أننا يمكن أن نعرف عن الغير دون أن نعرفه كما هو. "فالمعرفة التي لنا عن الناس الآخرين تكون كثيرة التعرض للخطأ، إذا نحن اقتصرنا في حُكمنا فقط على عواطفنا". وعليه فالعواطف لا توفر لنا المعرفة بذات الغير ولا يمكن لمعرفةٍ ظنية وجزئيةٍ أن تكون شمولية وتكاملية، إذ من المجازفة التعميم والإسقاط...

     

    2-    موقف ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة

    في كتابه "طبيعة التعاطف وشكله" ينتقد شيلر التصورات التشييئية للغير، التي تنفي إمكانية معرفة الغير وتنظر إليه من خلال ثنائية ذات-موضوع، معتبرا أن معرفة الغير لا تتطلب النظر إليه كموضوع منفصل إلى جزأين متقابلين بقدر ما تفرض النظر إليه كوحدة متجانسة، حيث ظاهرُه جزءٌ من باطنه ومظهره الخارجي يُنبئ عن حياته النفسية الداخلية في انسجامٍ وتوافق. يقول شيلر: "إننا ندرك فرح الغير من ابتسامته كما ندرك همومه وألمه من دموعه وخجله من احمرار وجهه ودعاءه من يديه الملتصقتين...". إن إدراك الغير لا يفيد تجزيئه بقدر ما يفيد النظر إليه ككُل (مجموع totalité) لا يقبل القسمة إلى شظايا مفككة لا تجمعها أية رابطة. هذا ما يؤكده أيضا موريس ميرلوبونتي باعتباره معرفة الغير ممكنة بشرط التواصل معه بالجسد واللغة والانفتاح عليه والتعاطف معه، بل حتى الامتناع عن التواصل هو نمط من التواصل، ولا يتوقف التواصل إلا إذا قبع كل واحد من الأغيار في جُحر ذاتيته وادعى كفاية الذات بذاتيها المغلقة أونظر إلى الغير نظرة لا إنسانية وإلى أفعاله كأفعال حشرة..

     3- موقف جيل دولوز: الغير يُكمل مجال إدراكي

    ينطلق دولوز من نقد تصور سارتر الذي يقف موقفا سلبيا من معرفة الغير والتواصل معه، لأن مسألة الغير لا تتعلق بالذات ولا بالموضوع ولا بالشخص وإنما بتعدد الذوات وتعدد المشكلات. إن الغير لا يقبل أن نتعامل معه كذات مغلقة تجب معرفتها معرفة كلية تستغرق جميع تفاصيلها وإنما يجب أن نتعامل معه كعالم ممكن يتحدد عبر ثلاثة شروط:

    -       عالم حسي ممكن يعبر عنه هذا الغير

    -        هيئة جسمية: ظاهره 

    -       لغة كلامية تُبرز تحققه في الواقع 

    يقول دولوز: "ليس الغير...شخصا ولا ذاتا ولا موضوعا...ومع ذلك فهو قائم الوجود. فهو عالم مُعَبَّر عنه يفرض علي أن أنفتح عليه وأكتشفه وأتواصل معه لأن العالم يحتاج إلى الانفتاح على الغير". ونتجاوز مختلف التصورات التشييئية التي تقلص أهمية الغير وقيمته وحضوره في العالم. إن العالم يتأسس على تعدد الذوات وتعدد العلاقات وتعدد المشكلات.

     

    المحور الثالث: العلاقة مع الغير

    ما هي العلاقة التي تربط الأنا مع الغير؟ هل هي علاقة كراهية وصراع وإقصاء أم علاقة صداقة واحترام ومواساة؟

     

    1- موقف أرسطو: الصداقة رابطة الممالك

    يعتبر أرسطو أن الصداقة إحساس فطري في قلب الإنسان لا يستغني عنها أحد من الناس مهما كانت وضعيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الغني والفقير، الشيخ والصبي، الطبيب والمريض...) إذ يعجز الفرد لوحده أن يكفي ذاته بذاته، لذلك فهو مضطر إلى صداقة الآخرين، والتي هي ثلاثة أنواع:

      - صداقة المُتعة: وترتكز على متعةٍ محددة، فتبقى ما بقيت المتعة وتزول إذا زالت. وهي صداقة ناقصة.

     - صداقة المنفعة: وتقوم على أساس المصلحة المادية، توجد بوجودها وتنعدم بعدمها. وهي أيضا صداقة ناقصة ومؤقتة. 

    - صداقة الفضيلة: ليست الغاية منها تحقيق المتعة أو المنفعة وإنما هي صداقة خالصة: صداقة من أجل الصداقة، حتى ولو تحققت من خلالها المتعة أو المنفعة فلم تكن هي المقصودة منها، وإنما حدثت عَرَضًا. تلك أجمل وأشرف أنواع الصداقات التي تقع بين البشر. وهي التي اعتبرها أرسطو "رابطة الممالك" أي اللحمة التي تربط بين أفراد الدولة الواحدة، وبها يتضامن الناس ويتعايشون، وحاجتهم لها أكثر من حاجتهم إلى العدل، وإن كان لا قيام للدول إلا بالعدل، فإن "أفضل أنواع العدل بلا جدال هو العدل المستمد من العطف والمحبة"... 

     

    2- موقف أوغست كونت: الحياة من أجل الغير

    في نفس الاتجاه الإيجابي من الغير يرى أوغست كونت أن "كل شيء فينا ينتمي للإنسانية، وكل شيء يأتينا منها"، فهي التي  قدمت لنا خيرا كثيرا منذ طفولتنا لا نملك أن نرد إليها ولو جزءا صغيرا مقابل ما تلقيناه منها، ولا نستطيع أن نُنكره عليها، إذ ما نحن فيه من خيرٍ ونعيم كان سببه هو الغير الذي ضَحَّى من أجلنا ووفر لنا الرفاهية والرخاء والثروة، عبر فاعِلين مختلفين (علماء، مفكرين، مخترعين، مكتشفين، عباقرة...) نعرف منهم ونجهل. لذلك علينا أن نعترف أولا بهذا الجميل وأن نتخلى ثانيا عن أنانيتنا الهمجية (الحياة من أجل الذات) التي تستفيد من فضل الآخرين وخدماتهم غير المحدودة لكنها تتنكر لهم، وذلك لنُنجز ما ينفع الغير وخاصة الأجيال القادمة (صداقة عابرة للأجيال)، أي علينا الانخراط في الحياة من أجل الغير، أو ما يسميه أوغست كُونت بـ: "الغيرية التي هي وحدها قادرة على أن تزودنا بأعظم زخمٍ للحياة...وتمنحنا الوسيلة الوحيدة لتطوير كل الوجود البشري بحرية".

     

    3- موقف جان بول سارتر: الغير جحيم وصراع 

    ينظر سارتر إلى الغير نظرة سلبٍ ونفي، والعلاقة بين الأغيار هي علاقة تشييئية ما دام كلا منهما يتعامل مع الآخر فقط كجسم أو كموضوع أو كشيء، لا تربطه به أية صلة. فهو ذاتٌ تزاحمني في وجودي وتقلص حريتي وتفقدني تلقائيتي، ولا أشعر معه بالاطمئنان والحرية، فبمجرد نظرته إليَّ أُحس بالحرج والضيق والخجل، وكذلك يشعر هو اتجاهي عندما أنظر إليه (نتبادل نظرة تشييئية). بيني وبينه عدَم مَحض، هُوة سَحيقة، ظلام غير محدود، مسافة لا أستطيع أنا ولا هو تجاوزها، إنها مُعطى موضوعي خارج عن إرادتنا وقدراتنا. فهو عالم مخيف يشبه الجحيم، يقول سارتر: "أنا، والجحيم هم الآخرون"، مثال ذلك "النظرة" التي تشُل حركة الطفل وتُعطِّل عفويته وتُوقفه عن اللعب. وهكذا حتى وإن كان وجوده لا يغيب عني ما دمتُ لا أعرف ذاتي إلا من خلاله فإنني لا أستطيع  النفاذ إليه ومعرفته والاتحاد أو الاستئناس به. إنه عالمٌ مغاير لعالمي.

    --------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     

     


    تعليقك


    تتبع مقالات هذا القسم
    تتبع تعليقات هذا القسم