• الـغـــيــر

    مفهوم الغير      

    د. أحمد الفراك

    مقدمة:

    رغم ما يشعر به الشخص من استقلال وذاتية فإن وجوده لا يتحقق إلا في وسط تتداخل فيه وتنتمي إليه الذوات والأفكار والمواقف، وبالتالي فهو مضطر إلى تحديد موقفه مِن وجودِ مَن يتقاسم معه هذا الوسط، أي الغير الذي هو شخص آخر، أو "الأنا الذي ليس أنا" بتعبير سارتر. إن الأنا محتاج دوما إلى الآخرين لكي يوجد ولكي يعرف ولكي يتواصل، فكيف ينظر هذا الأنا إلى غيره؟ وما ذا يمثل وجود الغير لوجود الشخص؟ وهل وجوده ضروري؟ وهل يستطيع الأنا معرفة الغير؟ إذا كان ممكنا فكيف؟ وإذا كان مستحيلا فما المانع؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربطه معه؟ هل هي علاقة كراهية ومواجهة وصراع(سلبية)؟ أم علاقة مودة واحترام وصداقة(إيجابية)؟

     

    المحور الأول: وجود الغير

    ماذا يمثل وجود الغير لوجود الذات؟

    1-         موقف رينيه ديكارت: لامبالاة بالغير

    انطلاقا من فكرة الكوجيطو "أنا أفكر إذن أنا موجود" يرى ديكارت أن الوجود مسألة ذاتية وأن الشيء الوحيد الذي يحصل اليقين بوجوده هو الذات المفكرة، التي تشك وتتأمل وتفكر، أي أن الأنا أفكر تشكل حقيقة بديهية يقينية لا يطالها الشك والتغير، ولا تحتاج إلى وجود خارجي يمثل وساطة إثبات ذاتها، فهي  وحدها تمارس فعل التفكير في ذاتها وفي العالم، وكل ما عدا ذلك فهو يدخل في خانة الشك. إن ديكارت لا يُهِمُّه وجود الغير ولا عدم وجوده من أجل إثبات وجوده الذاتي، لأن تجربة "الأناوحدية" تؤكد استغناء الذات المفكرة بنفسها عن الغير، يقول ديكارت: "أُطِلُّ من النافذة فلا أرى سوى قبعات ومعاطف ولا أرى أشخاصاً". بناء على ما سبق لا يحظى الغير بأي اعتراف من طرف فلسفة ديكارت، إنه يُهمله ولا يبالي به ولا يرى في وجوده أية ضرورة.

     

    2-         موقف جان بول سارتر: ضرورة وجود الغير

        إن الغير حسب سارتر حاضر باستمرار باعتباره ذاتا مماثلة للأنا، فهو "الأنا الذي ليس أنا"، يُشبهني ويختلف عني بشكل متآنٍ، يتحدد وجودي مع وجوده، مثلما أن معرفتي بذاتي تتوقف على وجودهإنَّ الغير هو الوسيط الذي لا غنى لي عنه إلا من جهة المستحيلفلا أُوجد إلا بشرط وجوده، ولولاه لما كنتُ أنا أنا، فهو الذي يمنح وجودي المعنى، غير أنه بعيد عني ومستقل بذاته، يحتفظ كلٍّ منَّا بأناه، إنه نظام مُركب من التمثُّلات الذهنية والنفسية التي تجعله كموضوع يصنعه الأنا ولا يعرفه. إنني أراه فقط من منظاري الخاص، أي انطلاقا من تجربتي الشخصية، وبنفس النظرة أيضا هو يُحددني كموضوع بين موضوعات كثيرة انطلاقا من تجربته الخاصة، والحقيقة هي أنه لا أنا ولا هو باستطاعتنا أن ننفذ إلى عمق ذوات بعضنا لأن بيننا هوة سحيقة تمنع تحقق أية علاقة حقيقية بيننا، فهناك عدمٌ محض يفصل بيني وبين الغير، لا يستمد أصوله من ذاتي أنا ولا من ذات الغير، بمعنى أن هناك غياب كُلي موضوعي لأية معرفة ممكنة. ومثال ذلك تجربة الخجل باعتباره "خجل من الذات عندما تتبدى أمام الغير". 

     

     3- موقف فريدريك هيغل: الغير ضروري للاعتراف بي 

          إذا كان جوهر الحياة البشرية هو الصراع فإن منطق الصراع يفرض المواجهة بين طرفين متنازعين يسعى كل منهما إلى الظَّفر بالانتصار، ولما كان من غير الممكن أن ينتصرا معا فإن كُلا منهما يُبدي استعداده الكامل للتضحية بنفسه وبكل ما يملكه حتى ولو كلفه ذلك الموت ليتغلب على خصمه في المعركة وينال شرف السيادة، بيدَ أنَّ منطق المواجهة يفرض استسلام أحدهما أمام الآخر، فيصير المغلوب عبداً معترفا للغير الغالبِ بسيادته. لهذا يعتبر هيجل أن وجود الغير ضروري لإخراج الأنا من ذاته وتحقيق وعيه الذي يتوقف على اعتراف الغير له بسيادته، وبالتالي تجاوز حالة الانغلاق على الذات بالانفتاح على الآخرين، وإنتاج وإعادة إنتاج العلاقة الجدلية: سيادة- عبودية، فلا يوجد الشخص شخصاً وإنما يوجد إما سيداً أو عبداً. 

     

    المحور الثاني: معرفة الغير

    هل يمكن معرفة الغير؟ وإذا كانت معرفته ممكنة فكيف تتحقق؟ وإن لم تكن ممكنة فهل المانع من حصولها ذاتي أم موضوعي؟

     

    1-         موقف نيكولا مالبرانش: صعوبات معرفة الغير

    واضح من موقف جان بول سارتر أنه بالرغم من تأكيد وجود الغير فإن معرفته في ذاته مستحيلة وكل محاولة في اتجاه التعرف عليه هي بمثابة خطوة نحو تشييئه وتحويله إلى موضوع، والمانع من هذه المعرفة ليس هو أنا ولا هو الغير وإنما هو مُعطى موضوعي غير قابل للتحدد أو للتجاوز. ونفس التصور يؤكده مالبرانش من خلال حديثه عن الموانع والصعوبات التي تحُول دون معرفة الغير، والتي يمكن تلخيصها في انفعالات ومشاعر الذات العارفة. إن كل ما نعرفه عن الآخرين مرتبط بتمثلاتنا الشخصية التي تنبع من وضعيتنا النفسية والاجتماعية والثقافية، يقول مالبرانش: "إن أقصى ما يمكننا الوصول إليه هو محاولة إطلاق فرضيات"، أي تخمينات وظنون وشكوك مُشبعة بالذاتية، مرتبطة بذواتنا وبانفعالاتنا، لكننا لا نتصل بذات الغير كما هو في حقيقته. وهذا يعني أننا يمكن أن نعرف عن الغير دون أن نعرفه كما هو. "فالمعرفة التي لنا عن الناس الآخرين تكون كثيرة التعرض للخطأ، إذا نحن اقتصرنا في حُكمنا فقط على عواطفنا". وعليه فالعواطف لا توفر لنا المعرفة بذات الغير ولا يمكن لمعرفةٍ ظنية وجزئيةٍ أن تكون شمولية وتكاملية، إذ من المجازفة التعميم والإسقاط...

     

    2-    موقف ماكس شيلر: معرفة الغير ممكنة

    في كتابه "طبيعة التعاطف وشكله" ينتقد شيلر التصورات التشييئية للغير، التي تنفي إمكانية معرفة الغير وتنظر إليه من خلال ثنائية ذات-موضوع، معتبرا أن معرفة الغير لا تتطلب النظر إليه كموضوع منفصل إلى جزأين متقابلين بقدر ما تفرض النظر إليه كوحدة متجانسة، حيث ظاهرُه جزءٌ من باطنه ومظهره الخارجي يُنبئ عن حياته النفسية الداخلية في انسجامٍ وتوافق. يقول شيلر: "إننا ندرك فرح الغير من ابتسامته كما ندرك همومه وألمه من دموعه وخجله من احمرار وجهه ودعاءه من يديه الملتصقتين...". إن إدراك الغير لا يفيد تجزيئه بقدر ما يفيد النظر إليه ككُل (مجموع totalité) لا يقبل القسمة إلى شظايا مفككة لا تجمعها أية رابطة. هذا ما يؤكده أيضا موريس ميرلوبونتي باعتباره معرفة الغير ممكنة بشرط التواصل معه بالجسد واللغة والانفتاح عليه والتعاطف معه، بل حتى الامتناع عن التواصل هو نمط من التواصل، ولا يتوقف التواصل إلا إذا قبع كل واحد من الأغيار في جُحر ذاتيته وادعى كفاية الذات بذاتيها المغلقة أونظر إلى الغير نظرة لا إنسانية وإلى أفعاله كأفعال حشرة..

     3- موقف جيل دولوز: الغير يُكمل مجال إدراكي

    ينطلق دولوز من نقد تصور سارتر الذي يقف موقفا سلبيا من معرفة الغير والتواصل معه، لأن مسألة الغير لا تتعلق بالذات ولا بالموضوع ولا بالشخص وإنما بتعدد الذوات وتعدد المشكلات. إن الغير لا يقبل أن نتعامل معه كذات مغلقة تجب معرفتها معرفة كلية تستغرق جميع تفاصيلها وإنما يجب أن نتعامل معه كعالم ممكن يتحدد عبر ثلاثة شروط:

    -       عالم حسي ممكن يعبر عنه هذا الغير

    -        هيئة جسمية: ظاهره 

    -       لغة كلامية تُبرز تحققه في الواقع 

    يقول دولوز: "ليس الغير...شخصا ولا ذاتا ولا موضوعا...ومع ذلك فهو قائم الوجود. فهو عالم مُعَبَّر عنه يفرض علي أن أنفتح عليه وأكتشفه وأتواصل معه لأن العالم يحتاج إلى الانفتاح على الغير". ونتجاوز مختلف التصورات التشييئية التي تقلص أهمية الغير وقيمته وحضوره في العالم. إن العالم يتأسس على تعدد الذوات وتعدد العلاقات وتعدد المشكلات.

     

    المحور الثالث: العلاقة مع الغير

    ما هي العلاقة التي تربط الأنا مع الغير؟ هل هي علاقة كراهية وصراع وإقصاء أم علاقة صداقة واحترام ومواساة؟

     

    1- موقف أرسطو: الصداقة رابطة الممالك

    يعتبر أرسطو أن الصداقة إحساس فطري في قلب الإنسان لا يستغني عنها أحد من الناس مهما كانت وضعيته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (الغني والفقير، الشيخ والصبي، الطبيب والمريض...) إذ يعجز الفرد لوحده أن يكفي ذاته بذاته، لذلك فهو مضطر إلى صداقة الآخرين، والتي هي ثلاثة أنواع:

      - صداقة المُتعة: وترتكز على متعةٍ محددة، فتبقى ما بقيت المتعة وتزول إذا زالت. وهي صداقة ناقصة.

     - صداقة المنفعة: وتقوم على أساس المصلحة المادية، توجد بوجودها وتنعدم بعدمها. وهي أيضا صداقة ناقصة ومؤقتة. 

    - صداقة الفضيلة: ليست الغاية منها تحقيق المتعة أو المنفعة وإنما هي صداقة خالصة: صداقة من أجل الصداقة، حتى ولو تحققت من خلالها المتعة أو المنفعة فلم تكن هي المقصودة منها، وإنما حدثت عَرَضًا. تلك أجمل وأشرف أنواع الصداقات التي تقع بين البشر. وهي التي اعتبرها أرسطو "رابطة الممالك" أي اللحمة التي تربط بين أفراد الدولة الواحدة، وبها يتضامن الناس ويتعايشون، وحاجتهم لها أكثر من حاجتهم إلى العدل، وإن كان لا قيام للدول إلا بالعدل، فإن "أفضل أنواع العدل بلا جدال هو العدل المستمد من العطف والمحبة"... 

     

    2- موقف أوغست كونت: الحياة من أجل الغير

    في نفس الاتجاه الإيجابي من الغير يرى أوغست كونت أن "كل شيء فينا ينتمي للإنسانية، وكل شيء يأتينا منها"، فهي التي  قدمت لنا خيرا كثيرا منذ طفولتنا لا نملك أن نرد إليها ولو جزءا صغيرا مقابل ما تلقيناه منها، ولا نستطيع أن نُنكره عليها، إذ ما نحن فيه من خيرٍ ونعيم كان سببه هو الغير الذي ضَحَّى من أجلنا ووفر لنا الرفاهية والرخاء والثروة، عبر فاعِلين مختلفين (علماء، مفكرين، مخترعين، مكتشفين، عباقرة...) نعرف منهم ونجهل. لذلك علينا أن نعترف أولا بهذا الجميل وأن نتخلى ثانيا عن أنانيتنا الهمجية (الحياة من أجل الذات) التي تستفيد من فضل الآخرين وخدماتهم غير المحدودة لكنها تتنكر لهم، وذلك لنُنجز ما ينفع الغير وخاصة الأجيال القادمة (صداقة عابرة للأجيال)، أي علينا الانخراط في الحياة من أجل الغير، أو ما يسميه أوغست كُونت بـ: "الغيرية التي هي وحدها قادرة على أن تزودنا بأعظم زخمٍ للحياة...وتمنحنا الوسيلة الوحيدة لتطوير كل الوجود البشري بحرية".

     

    3- موقف جان بول سارتر: الغير جحيم وصراع 

    ينظر سارتر إلى الغير نظرة سلبٍ ونفي، والعلاقة بين الأغيار هي علاقة تشييئية ما دام كلا منهما يتعامل مع الآخر فقط كجسم أو كموضوع أو كشيء، لا تربطه به أية صلة. فهو ذاتٌ تزاحمني في وجودي وتقلص حريتي وتفقدني تلقائيتي، ولا أشعر معه بالاطمئنان والحرية، فبمجرد نظرته إليَّ أُحس بالحرج والضيق والخجل، وكذلك يشعر هو اتجاهي عندما أنظر إليه (نتبادل نظرة تشييئية). بيني وبينه عدَم مَحض، هُوة سَحيقة، ظلام غير محدود، مسافة لا أستطيع أنا ولا هو تجاوزها، إنها مُعطى موضوعي خارج عن إرادتنا وقدراتنا. فهو عالم مخيف يشبه الجحيم، يقول سارتر: "أنا، والجحيم هم الآخرون"، مثال ذلك "النظرة" التي تشُل حركة الطفل وتُعطِّل عفويته وتُوقفه عن اللعب. وهكذا حتى وإن كان وجوده لا يغيب عني ما دمتُ لا أعرف ذاتي إلا من خلاله فإنني لا أستطيع  النفاذ إليه ومعرفته والاتحاد أو الاستئناس به. إنه عالمٌ مغاير لعالمي.

    --------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     

     

    النظرية والتجربة »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق