• مفهوم الدولة

          مفهوم الدولة    

      د. أحمد الفراك

     

     

    تقديم : 

              لكي يعيش الناس في مجتمع يسوده النظام والاستقرار وتنتظم علاقات أفراده على أساس الحفاظ على المصلحة العامة التي يتقاسمها الجميع، لابد من إنشاء كيان قانوني وسياسي وأخلاقي يمتلك السلطة والسيادة التي تشمل الجميع٬ تُوكل إليه مهمة حفظ الأمن وضمان الحريات وتنظيم العلاقات بين الناس، فكانت الدولة (The state, L’Etat) هي ذلك الجهاز الضخم الذي تُنسب له وظيفة التنظيم والتدبير والتسيير فيما يتعلق بالشؤون العامة لمجموع مواطني بلد ما. لكن إذا كانت وظيفة الدولة واضحة من الناحية النظرية فإنها واقعيا تتلبسها مجموعة من الإشكالات نذكر منها:  

    - على أية مشروعية ترتكز الدولة في وجودها؟ أو بعبارة أخرى ما هي المبررات التي تُخول للحاكم ممارسة حكمه؟ وهل هي غاية أم وسيلة؟ 

    - على أي أساس تقوم سلطة الدولة؟ أو كيف تمارس الدولة تسييرها للشأن العام؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربط الحاكم بالمحكومين؟ 

    - إذا كان واجب الدولة هو حماية الحق فهل يجوز لها أن تستعمل العنف؟ وإذا ما كان جائزا فهل هو مطلق أم مُقنن؟ 

    المحور الأول: مشروعية الدولة وغايتها 

    ِ

    1-  موقف ماكس فيبر: المشروعيات الثلاث

    إذا كان لا بد لكل دولة من مشروعية سياسية تستند إليها في ممارسة السلطة، فإن هذه المشروعية تنقسم إلى ثلاثة أسس مختلفة وهي: 

    - المشروعية التقليدية: أو المشروعية الوراثية وهي التي تستمدها الدولة عن طريق الوراثة٬ حيث يرث الحاكم سلطته عن آبائه وأجداده دون أن يختاره الشعب، وإنما يفرض نفسه متعاليا على الإرادة العامة لمجموع المواطنين، ولا يجيز الاعتراض عليه  أو تغييره٬ وتسمى سلطته بـ"سلطة الأمس الأزلي"... 

    - المشروعية البطولية: وتسمى المشروعية الكارزمية، وتقوم على المزايا الشخصية والإنجازات الكبيرة لشخص الحاكم الذي يتمتع بنفوذ خاص يجعل الناس يلتفون حول القضية التي يدافع عنها، كأن يكون عالما أو زعيما سياسيا أو مناضلا كبيرا أو ديماغوجيا... و يفرض احترامه على الناس طواعية. 

    - المشروعية الشرعية: وتسمى المشروعية الديمقراطية أو العقلانية، وأوهي المشروعية التي تُستمد من الإرادة العامة للشعب عن طريق التعاقد والاختيار٬ فتكون سلطة الحاكم قائمة على أساس الامتثال للواجبات والالتزامات المطابقة للقوانين٬ فيُنظر إلى الحكم كخدمة للدولة و إلى الحكام كأجراء عند الشعب ليس إلا. 

    2- موقف باروخ اسبينوزا: الغاية من الدولة هي الحرية 

    ليست الغاية من الدولة هي السيادة والتخويف والسيطرة والإكراه، وإنما هي حفظ حقوق الأفراد وحماية مصالحهم وضمان حرياتهم وأمنهم، إذ لا فائدة من الدولة إن لم تحرر الفرد من الخوف والرعب والترهيب، يقول سبينوزا: «الغاية من تأسيس الدولة ليست هي تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات وﺁلات صماء»٬ ويعني أن وجود الدولة لا يقتضي احتقار المواطنين والاستخفاف بمطالبهم وإرغامهم على الطاعة، وتوظيف الأساليب الخسيسة لتركيعهم وسلبهم حرياتهم، فذلك مُناقض للغاية التي أُنشئت من أجلها، وهي صون وتنظيم الحريات الفردية والجماعية، وليست قمعها ومنعها، يقول سبينوزا: "الحرية إذن هي الغاية من قيام الدولة".

    ولما كان من المستحيل أن تتواطأ جميع أراء الناس وأفكارهم وكان من المستحيل أيضا أن يُثبت الفرد الواحد أن له العلم بكل شيء وقادر على كل شيء(الاستبداد)٬ فإن الطريق إلى تحقيق السلام والأمن هو تنازل الأفراد عن حقهم المطلق في أن يتصرفوا وفق إرادتهم المطلقة لصالح سلطة عليا تصون حقوقهم جميعا وفق القوانين المتعاقد عليها٬ شرط اعتماد العقل ونبذ أخلاق الحقد والعنف والخداع. دون أن يفيد ذلك تنازلهم عن حقهم في التفكير أو عن حقهم السياسي.

     

    3- موقف توماس هوبز : الغاية من الدولة هي السلم 

    وُلد الناس أحرارا و متساويين، غير أن هذا التساوي لم يثبت مع حالة الطبيعة التي تقوم على أساس الحرب الدائمة والفوضى والخوف والعنف والنزاع بين الأفراد، أو ما يسميه بالحرب المزرية أي "حرب الكل ضد الكل". لذلك اقتنع الجميع بوجوب البحث عن الوسائل الكفيلة بمساعدة الإنسان على تحقيق الأمن والاستقرار والسلم. فكان لزاما وقف استشراء العنف والانتقال بالتجمع البشري المهدد إلى مجتمع الدولة المنظمة. والوسيلة الوحيدة لتحقيق هذا الانتقال هي "التعاقد الاجتماعي" الذي يضمن السلم والأمن بوجود حاكم أو مجلس حيث يتنازل الأفراد برضاهم عن حقهم الطبيعي المطلق (الحرية المطلقة) لفائدة الحاكم قصد ضمان باقي الحقوق والخروج من العيش وفق "حق القوة" إلى العيش وفق "قوة الحق" حيث تصان جميع الحقوق. وهذا التوافق بين الشعب والحاكم هو أساس سلطة الدولة الحديثة.

     

     

    4- موقف فريدريك هيجل: الدولة غاية وليست وسيلة  

    على خلاف ما سبق ينتقد هيجل التصور التعاقدي الليبرالي الذي يخلط بين الدولة والمجتمع المدني فيجعل الدولة مجرد وسيلة لخدمة الفرد وحماية حريته وملكيته، معتبرا أن هذا الخلط سيقود إلى حصر مهمة الدولة في حماية المِلكية والحرية الشخصيتين، وجعْل الغاية من وجودها هي مصلحة الأفراد من حيث هم أفراد، وآنذاك سيصبح الانتماء إلى الدولة أمرا اختياريا وليس ضروريا، غير أن علاقة الدولة بالفرد مختلفة عن ذلك تمام الاختلاف، فهي الروح الموضوعية الكلية التي تستمد مشروعيتها من ذاتها وليس من الفرد المتمركز حول ذاته، وبناء عليه فليس من اختصاصها تحقيق الأمن والسلم وباقي المطالب الفردية التي هي من صميم اختصاص المجتمع المدني، أما الفرد في حد ذاته فليس له من الموضوعية ولا من الحقيقة إلا بمقدار ما هو مواطن في دولة تعطيه المعنى والهوية يقول هيجل: "إن الاتحاد الخالص والبسيط هو المضمون الحقيقي والهدف الصحيح للفرد، ومصير الفرد هو أن يعيش حياة كلية جماعية". 

     

    المحور الثاني: طبيعة السلطة السياسية

    كيف تمارس الدولة سلطتها في المجتمع؟ 

     

    1-  موقف لوي ألتوسير: القمع والايدولوجيا

    تقوم سلطة الدولة حسب ألتوسير  على الجمع والتكامل بين جهازين متباينين هما: 

           ●الجهاز القمعي: ويتكون من مجموعة من المؤسسات المتناسقة فيما بينها وهي: الحاكم، الحكومة، المحكمة، الإدارة، الشرطة، الجيش، السجن... وهو جهاز موحد يؤدي وظائفه بالتنسيق بين مؤسساته، وهو عمومي يستهدف عامة الناس، وظاهر يمارس فعله القمعي أمام الملأ، ويستخدم العنف المادي والمعنوي. وغايته هي تكريس سلطة الدولة وهيبة النظام، وإكراه الناس على الطاعة والامتثال... 

          ●الجهاز الإيديولوجي: ويتكون أيضا من مجموع المؤسسات التي تسهر على ترسيخ إيديولوجية الدولة داخل المجتمع، مثل: الأسرة،  الإعلام، المدرسة، الكنيسة، الأحزاب، النقابات... وهو جهاز موزع في جميع المجالات العلمية والاجتماعية والفنية والدينية والسياسية والنقابية والاقتصادية، وهو مُضمر  لا يعلن عن نفسه، وخاص بكل مؤسسة بحسب طبيعتها ورسالتها فيتكيف معها حيث هي، وهو سلمي لا يمارس عنفا ماديا بل يُعوِّل على التخدير والتنشئة والتطبيع... 

     2- موقف نيكولا ماكيافيلي : المكر والخيانة 

    في كتابه "الأمير" يرى نيكولا ماكيافيلي أن السلطة السياسية تقوم على الخداع والمكر والعنف، حيث يجب على الحاكم -إن كان يريد أن يكون عظيما ويتفوق على أمراء عصره- أن يمتلك القدرة على ممارسة سلطته بالجمع بين طريقتين مختلفتين ومتكاملتين هما:

    -         طريقة القانون: أي على الأمير أن يضع القوانين التي تضمن له استمرار سلطته وإجبار الناس على الخضوع لهذه القوانين٬ والذين يحترمون القانون يعدهم بشراً، أما الذين لا يخضعون لقانونه فهم –في نظره- بمثابة "حيوانات متوحشة" تستحق الردع والعقاب والمكر. 

    -         طريقة اللاقانون: أي حرص الأمير على استعمال وسائل البطش والتنكيل والتعذيب والقتل، بحيث يجوز له أن يخرق القوانين وينتهك الحقوق ويخون العهود ويعطل المواثيق ويضيع الأمانات، إذا لم يكن ذلك في مصلحته. 

    إذن أمام الحاكم مختلف الوسائل والطرائق والأساليب بما فيها التظاهر بأخلاق الرحمة والتدين والإحسان كي يحافظ على استمرار الدولة واستمراره هو نفسه في الحكم. مثلما عليه أن يكون مستعدا ليتحول إلى حيوان مفترس يبطش بمن يخالفه ولو خارج إطار القانون. يقول ماكيافلي: "على الحاكم أن يعلم جيدا كيف يتصرف كالحيوان، وأن يقلد الثعلب والأسد في نفس الآن".

    3- موقف عبد الرحمن بن خلدون:  الاعتدال 

    خلافا لماكيافلي يرى عبد الرحمن بن خلدون أن أساس السلطة في الرفق والاعتدال، والعمل بمقتضى النظر الشرعي والعقلي، وليس نظر الغرض والشهوة، وعلى الحاكم أن يتصف بصفات إنسانية نموذجية توصف بالاعتدال وليس بالبطش والخيانة، تؤهله لقيادة الرعية بالعدل والرحمة، وعلى الرعية أن تطيعه ما وَفَّى بشروط الطاعة في المعروف وإلا أُبدِل بغيره. وأخلاق الرعية من أخلاق السلطان، مما يوجب عليه التخلق بأخلاق إنسانية عالية ليكون قُدوة لغيره، ولا ينبغي أن يكون ظالما ومنافقا يخفي الغدر والمكر ويظهر التدين والرحمة، لأن قهر السلطان للرعية يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، والظلم مؤذن بخراب العمران. 

     

    المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف 

     

     

    من أجل تحقيق السلم والأمن والعدالة تحتاج الدولة إلى تطبيق القوانين التي بموجبها يخضع الناس لصوت الحق٬ لكن استجابة الناس لنداء العدالة متفاوت حسب تفاوت المستويات التربوية والثقافية والاجتماعية والأخلاقية للأفراد والجماعات، مما يضطر الدولة لاستعمال أساليب الإكراه و الإجبار والعنف (وازع السلطان)٬ لكن استعمال هذا العنف قد يوقعها في تجاوز القانون وبالتالي انتهاك الحقوق وخيانة العهود٬ فيحصل الظلم، كما يقول بليز باسكال: "العدالة دون قوة ضُعف والقوة دون عدالة تسلُّط". مما يعيد طرح السؤال الإشكالي من جديد: إذا جاز للدولة أن تستعمل العنف بُغية ردع الأفراد والجماعات الخارجين عن القانون فهل يُشترط عليها أن تتقيد بضوابط القواعد القانونية المتعاقد عليها أم أنها تستعمل قوتها وسلطتها بصورة مطلقة وغير مقيدة (التعسف)؟ أو قل باختصار: هل عنف الدولة مشروع؟ وهل مشروعيته مطلقة أم مقيدة؟ 

     

    1-  موقف ماكس فيبر:  العنف المقنن

       يرى ماكس فيبر في كتابه "عالم وسياسي" أنه إذا كانت "السياسة هي فن قيادة تجمُّع سياسي يسمى الدولة، أو التأثير الذي يمارَس في هذا الاتجاه" فإن وجود الدولة تاريخيا رهينٌ بوجود العنف واستعماله، حيث لا تخلو مؤسسات الدولة من أجهزة مُتخصصة في استخدام وسائل وأساليب القمع و المنع والإكراه٬ ويستدل على ذلك بقولة شهيرة للزعيم الشيوع تروتسكي يقول فيها: "تقوم كل دولة على العنف"، من حيث لا يُتصور خُلُوها منه إلا من جهة المستحيل. ذلك أن تعاقد الأفراد فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الدولة من جهة ثانية كان من أجل منع التظالم وضمان الأمن والاستقرار الجماعي، إلا أن هذا لا يتحقق إلا إذا احتكرت الدولة استعمال العنف٬ وخاصة العنف المادي فتكون هي مصدره الوحيد لتمنع جميع الأفراد والجماعات من استعماله مهما كانت مبرراتهم إلا بموافقتها، لكن لا يجوز لها ذلك إلا في إطار القانون المتعاقد عليه. 

            على خلاف موقف ماكس فيبر الذي يدافع عن مشروعية العنف في إطار المواثيق المتعاقد عليها (العنف القانوني)، يتميز ماكيافيلي بالدفاع عن استعمال العنف بشكل مطلق سواء في إطار القانون أو في إطار اللاقانون مادامت الغاية من الدولة هي الحفاظ على سلطة الأمير مهما كان الثمن الذي سيدفعه الأفراد ومهما كانت العهود المُبرمة معهم...  

     

    2-  موقف فردريك إنجلس: العنف نتاج الطبقية

    انطلاقا من التصور الماركسي لإشكالات الدولة يعتبر فرديريك إنجلس أن وجود الدولة لا يرتبط بالفكر الأخلاقي أو بالعقل المجرد، وليست الدولة إرادة عامة حرة وكلية كما يرى هيجل، وإنما هو نتاح للمجتمع في مرحلة معينة من تطوره حيث أسهمت التناقضات المجتمعية وتفاوت المصالح بين الناس في فرض الحاجة إلى الدولة من أجل تقليص أشكال الصراع و تنظيمها، أي أن الدولة بِنت صراع الطبقات الاجتماعية بحيث الطبقة الأقوى هي التي تسود وتسيطر. لكن القضاء على الصراع وتجاوز التناقضات الاجتماعية والاقتصادية وإعادة تنظيم المجتمع على أسس اشتراكية سيُعجل برحيل الدولة أو الاحتفاظ بها في المتحف الأثري إلى جانب العَجَلة والفأس البرونزي.

    3- موقف جاكلين روس: دولة الحق

    لا يحق للدولة -في نظر جاكلين روس- أن تمارس العنف ولو في إطار القانون، إذ لا يكفي القانون وحده لضمان الحق، بل يجب أن تكون الدولة نفسها دولة حق، تحفظ كرامة الشخص باعتباره غاية، وتمارس السلطة السياسية بطريقة مُعقلنة قائمة على حرية الاختيار والفصل بين السلط، وتطبيق القانون على الجميع، وتَجسد الحق والقانون واقعا يوميا يعيشه الناس في حياتهم وليس مجرد شعارات ودساتير وخُطب. إن دولة الحق في نظر جاكلين روس واقع يومي يعيشه الناس في حياتهم ويلمسونه بأنفسهم ولا يمكن اختزالها في مجرد قوانين يستدعيها الحاكم للانتقام من خصومه وتكريس وضعية استبدادية يجمع فيها بين جميع السُّلط ويمارس الديكتاتورية باسم القوانين والدساتير والتشريعات.

     

    خلاصة المحور:

     إذا كان لا يتصور خُلو الدولة من أجهزةٍ تستعمل العنف كما يقول علي بن أبي طالب: "لا خير في حق لا تدعمه القوة"، فيجب أن يكون هذا الاستعمال من طرف الدولة الديمقراطية، أي دولة الحق والقانون، التي تأخذ على عاتقها حماية الحق في إطار القوانين المتعاقد عليها مع الشعب٬ باعتبارها تجسد إرادته العامة عبر انتخابات اختار فيها قادته وبالتالي سياسته، وأن يكون هذا العنف محدودا ومبررا بالقانون والواقع، وأن يكون ضد العنف، كما يقول إيف ميشو: "الدولة عنف ضد العنف".  

    ---------------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

     

    « العلمية في العلوم الإنسانية مفهوم السعـادة »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق