-
مفهوم الواجب
مفهوم الواجببقلم: د. أحمـَد الفـرَّاكتقديم:
في مبحث الأخلاق بوصفه مبحثا معياريا يبرز مفهوم الواجب الذي هو في الأصل التزام أخلاقي خال من إكراه الغير، يختاره الفرد أو تختاره الجماعة دون أن يكون مفروضا من الخارج، ومن غير أن يترتب على الإلتزام به أي لوم أو عقاب، وإلا كان إكراها أو تهديدا. فهو إذن اختيار عقلي متحرر من قبضة الأهواء والإلزامات، لكن الواقع يشهد بأن أغلب الواجبات تكون قهرية مُلزِمة. فما علاقة الواجب بالإكراه؟ وهل الواجب إلزام أم رغبة؟ وهل الخضوع للواجب نابع من الضمير الأخلاقي أم من ضغط القاعدة القانونية أم من اللاشعور؟ وهل مصدر الواجب وعي داخلي تلقائي أم وعي خارجي يفرضه الوضع المجتمعي؟ وكيف تتفق كونية الواجب مع نسبية القوانين والأعراف؟ وما علاقة الواجب بالمجتمع؟ وأيهما يصنع الآخر؟
المحور الأول: الواجب والإكراه
هل الواجب رغبة أم إكراه؟ هل يختاره الفرد بمحض إرادته العاقلة أم يتقبله كإلزام براني؟ هل نختاره أم يُفرض علينا؟
1- موقف كانط: الواجب إلزام
الواجب حسب كانط أمر أخلاقي نموذجي متعالي عن المصلحة والمنفعة والرغبة، مفروض على النفس والإرادة كرها من طرف العقل، ويحول دون خضوعها لميولات النفس، يقول كانط: "الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس العقل إكراها عليها، وهذا الإكراه هو الأمر الأخلاقي"، الذي لا يراعي في وجوبه النتائج المنتظرة منه أي ليس أمرا أخلاقيا شرطيا، وإنما هو أمر أخلاقي مطلق، ولا يحمل معه أية لذة، بل يحمل الألم، ورغم تقديسه كفعل بديهي وغائي، يفرض إلزاميته وكونيته وشموليته. لذلك على الفرد أن يتصرف وكأنه الإرادة المشرِّعة، وأن يكون تصرفه كأنه قاعدة كونية شاملة، فيعامل نفسه كما يعامل الإنسانية جمعاء باعتبارها غاية وليست وسيلة لتحقيق رغبة معينة. أو قُلْ بعبارة مختصرة: لا غاية للواجب إلا الواجب نفسه ...
2- موقف دوركهايم: الواجب إلزام ورغبة
يرى دوركايم أن التحديد الكانطي لمفهوم الواجب يحتاج إلى مراجعة، إذ الواجب الأخلاقي إلزامي من جهة، لكنه أيضا صادر عن رغبة محددة من جهة ثانية، ف "لا نستطيع أن نقوم بعمل ما فقط لأنه مطلوب منا القيام به أو لأننا مأمورون به"، بل "يتعين أن تكون الغاية الأخلاقية التي نسعى إليها مرغوب فيها"، أي أن الواجب يتأسس على ركنين متداخلين لا ينبغي الفصل بينهما، وهما الإلزام العقلي الذي تحدث عنه كانط، والرغبة التي تستحسن الواجب وتوفر له عناصر المتعة واللذة والخيرية. فلا نمارس الفعل الأخلاقي لأنه واجب إلزامي فحسب بل لأننا نميل إليه ونستحسنه، إذ "هناك نوع من التداخل بين الواجب والخير واللذة في كل الحياة الأخلاقية".
المحور الثاني: الوعي الأخلاقي
ما مصدر الواجب؟ ومن أين ينبع الوعي الأخلاقي؟ هل هو فطرة الفرد أم الأنا الأعلى أم تنشئته الاجتماعية؟
1- موقف ج. ج. روسو: الوعي الأخلاقي غريزة فطرية
الوعي الأخلاقي حسب روسو "مبدأ فطري للعدالة والفضيلة" يولد مع الإنسان غريزة إلهية خالدة وصوتا سماويا مُرشدا، ولا تمنحه له أية جهة فيما بعد، أو بتعبير آخر: الوعي شعور داخلي غريزي صائب على أساسه نُقوِّم سلوكات الذات وسلوكات الغير، فنستحسن منها ونستقبح، أما أفعال الوعي فهي ليست أفكارا وإنما هي عبارة عن أحاسيس مناسبة للطبيعة الإنسانية تمُكننا من اتخاذ معايير محددة للحُكم على نمط علاقتنا بالأشياء وبالناس، ثم تقويمها، إذ بالوعي الأخلاقي الذي يتفوق به الإنسان على البهائم تُوفَّر لنا القدرة على التمييز بين الخير والشر، وبين الحق والباطل وبين الصدق والكذب...إلخ
2- موقف س. فرويد: الوعي الأخلاقي و الأنا الأعلى
ليس الوعي الأخلاقي كيانا فطريا داخليا ومستقلا، بل هو جزء لا يتجزأ من محددات البنية النفسية والاجتماعية للفرد، ويشكل بالضبط إحدى وظائف جهاز الأنا الأعلى المتمثلة في "مراقبة أفعال ومقاصد الأنا والحُكم عليها" انطلاقا من مجموع القواعد التربوية والأخلاقية التي رسختها قيم الجماعة في ضمير الفرد (دين، أخلاق، أعراف، قوانين...)، إذ الضمير الأخلاقي لا يتشكل إلا بعد تشكل الأنا الأعلى نتيجة احتكاك الأنا مع المجتمع، يقول فرويد: "إن الإحساس بالذنب، وقساوة الأنا الأعلى، وصرامة الضمير الأخلاقي، كلّها شيء واحد. إن الإحساس بالذنب هو تعبير عن إدراك الأنا لكونه خاضعا للمراقبة من طرف الأنا الأعلى"، فالواجب تجسيد لقيم الجماعة في سلوك الفرد وليس غريزيا.
المحور الثالث: الواجب والمجتمع
ما علاقة الواجب بالهوية المجتمعية؟ وهل يقتصر الواجب الأخلاقي على فردانية الذات أم يتجاوزها إلى ضمير المجتمع؟
يتفق علماء السوسيولوجيا على أن المصدر الأساس للواجب الأخلاقي هو التنشئة الاجتماعية، التي تؤثت وعي الفرد وتُكيفه بطريقة تُصيِّره مندمجا اندماجا كليا أو جزئيا مع قيم الجماعة. يقول دوركايم: "ضميرنا الأخلاقي لم يَنتُج إلا عن المجتمع ولا يُعبِّر إلا عنه، وإذا تكلم ضميرنا فإنما يردد صوت المجتمع فينا".
1- موقف ماكس فيبر: واجب الاقتناع وواجب المسؤولية
يميز فيبر في الواجب الأخلاقي بين مبدأين متعارضين: مبدأ الاقتناع ومبدأ المسؤولية، إذ من الناس من يتصرف بأخلاق الاقتناع ومنهم من يتصرف وفق أخلاق المسؤولية، الأول ينجز الفعل دون أن يتعلق بالنتائج سواء أكانت إيجابية أو سلبية، وتنتج عن هذا المبدأ أخلاق التملص من المسؤولية، حيث ينسب صاحبه الإخفاق والفشل والخطأ إلى الظروف الخارجة عن الذات وإلى حماقة البشر وإلى مشيئة الله. والثاني يخطط ويتابع إنجاز الفعل إلى نهايته ويحرص على نجاحه مثلما يخشى الإخفاق أو الفشل، ويعترف بمسؤوليته في حالة عدم التوفيق، وهذا المبدأ يُنمي أخلاق المسؤولية والمساءلة الفردية على الأفعال والاختيارات، ويُجَنِّب إلقاء اللوم خارج الذات الفاعلة.
2- موقف جون راولس: الواجب نحوالمجتمع القادم
يشير راولس إلى نوع خاص من أنواع الواجب، وهو الواجب نحو المستقبل، أي اتُّجاه سكان العالم القادمين، حيث يجب التفكير في تضامن الجيل الحالي مع الأجيال القادمة على أساس مبدأ العدالة العابرة للأجيال، أي "على مبدأ توفيرٍ يضمن لكل جيل أن يتلقى ما يستحق من سابقيه، كما أن عليه أن يلبي بطريقة منصفة متطلبات لاحقيه"، الأمر الذي يفرض إحداث عدالة مؤسساتية مشتركة تسهر عل التوزيع العادل للثروة بين الأجيال المتعاقبة في الزمان والمكان.. وهو الموقف الذي يتعارض مع موقف كانط الذي لا يستسيغ استفادة الجيل القادم مجانا من أعباء وعناء الجيل الحالي !
وسواء أكان الواجب اختياريا أم اضطراريا، صادرا عن وعي فطري أو عن اللاوعي، يتجه نحو الذات أو صوب المجتمع، أنتجَ المجتمع أم أن المجتمع هو الذي أنتجه، فإن "أصعب ما في الواجب هو القيام به" كما يقول ألان.
------------------------
بريد التواصل elfarrak@gmail.com
-
تعليقات
1abdelaziz belkhyrالسبت 10 ماي 2014 في 17:07اللهم باركRépondre
إظافة تعليق