• مفهوم التاريخ

         مفهوم التاريخ  
       
          إعداد: أحمد الفراك 
     

    مفهوم التاريخ

       

     

    --------------------------------

    تقديم :

    يعيش الإنسان في جماعات منتظمة تحتكم في حياتها إلى قيم وقوانين تتجاوز الأفراد من حيث أعمارهم لتمتد إلى عصور وأزمنة مختلفة، لكن لا تاريخ دون حضور الشخص وفعله فيه وإلا فمن يجهل أثر العلماء والباحثين والمكتشفين والعباقرة على حياة الناس وطرائق سلوكهم؟ ثم أليست الصيرورة التاريخية نتاجا لما يصدر عن جميع الناس من تصرفات فردية وجماعية؟ هذه الأسئلة تثير الاستفهامات التالية:

    1- بالرغم من أن الإنسان ينتمي إلى التاريخ ينخرط فيه وينفعل به فإنه يتوق إلى فهم المنطق الناظم لصيرورته وبناء معرفة علمية به فهل هذه المعرفة ممكنة ؟ وإذا كانت كذلك فما هي أدواتها وما هي حدودها؟ .

    2- هل لتسلسل الأحداث وجهة محددة؟ هل يخضع التاريخ لقوانين منظمة أم أنه خاضع للصدفة فقط ؟ ثم هل للصيرورة التاريخية تقدم خطي مسترسل أم أنها تراجع وارتداد ؟ وهل يتقدم التاريخ بالتراكم أم بالطفرات؟

    3- هل يخضع التاريخ لإرادة الإنسان وتحكُّمه أم على العكس من ذلك لا يتحدد الإنسان إلا كصناعة للتاريخ؟

     

    المحور الأول:  المعرفة التاريخية؟

    1- موقف عبد الرحمان ابن خلدون: التاريخ نظر وتحقيق

                يعتبر عبد الرحمان بن خلدون أن التاريخ علم أصيل قائم بذاته تتعاطاه جميع الأمم ويتداوله كل الناس (السوقة والأغفال، الملوك والأقيال، العلماء والجهال)، وهو قسمان ظاهر وباطن:

    - الظاهر: يهتم بتجميع أخبار السابقين وترتيبها ونقلها قصد تداولها بين الناس.

    - الباطن: لا يقف عند مجرد نقل الأخبار وإنما هو "نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق"، أي أن معرفة التاريخ علم له موضوعه الخاص ومنهجه الخاص، وتكمن أهميته كعلم في معرفة أحوال الأمم السابقة من أنبياء وملوك وغيرهم، لهذا تحتاج المعرفة بالتاريخ إلى "مآخذَ متعددة ومعارف متنوعة وحُسنِ نظرٍ وتَثَبُّثٍ يُفضيان بصاحبهما إلى الحق" مثلما تحتاج إلى التمكن من استيعاب القواعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية واستعمال القياس العقلي بنوعيه "الغائب على الشاهد والشاهد على الغائب" ولزوم الموضوعية والحياد. وأخيرا يشير ابن خلدون إلى المزالق والأخطاء التي يقع فيها المؤرخون والمفسرون وأئمة النقل وذلك لأنهم لا يمحصون الأخبار ولا يستعملون القياس ولا يتحققون من الأحداث ولا يعلمون طبائع الكائنات، كما أنهم لا يفاضلون بالعقل ما حصلوا من معلومات مما يقودهم إلى إنتاج معرفة متوهمة ومغلوطة وناقصة تسيء إلى الحق وتبتعد عن الحقيقة.

    2- موقف هنري إيريني مارو: علم التاريخ هو معرفة الماضي

    يتعارض علم التاريخ حسب إيريني مارو مع الاهتمامات التالية:

    -السرد الخبري لأحداث الماضي: لأن مجرد السرد تجميع للوقائع وترتيبها ثم نقلها، أما التاريخ فهو معرفة علمية تجمع بين التصور المنهجي المنظم وبين التدوين المكتوب.

    -البحث والدراسة: لأنهما وسيلة للمعرفة وليسا غاية لهذا فالمعرفة التاريخية هي التي تفيدنا في الوصول إلى نتيجة يعمل المؤرخ على بناءها بنفسه.

    -الإيديولوجية والخيال والأسطورة والقصص التربوية: لأن هذه تزيف الواقع وتمسخه أما علم التاريخ فيتحدث عن الماضي البشري كما هو لا كما ينبغي أن يكون.

    -المعرفة العامية: وهي معرفة مختلطة بالأوهام والظنون والرغبات أما التاريخ فهو "معرفة مبنية تتشكل تبعا لمنهج منظم وصارم".

      

    المحور الثاني :   التاريخ وفكرة التقدم؟

    1-موقف إدوارد ه. كار: التقدم والتطور

    ينتقد إدوارد كار ثلاثة تصورات فلسفية حول فكرة التقدم:

    - التصور الأول: وهو الذي تدافع عنه الفلسفة الاختزالية، التي تخلط بين التقدم والتطور، وقد أشاع هذه النزعة فلاسفة الأنوار لما اختزلوا التقدم وهو مكتسب اجتماعي في فكرة التطور الحاصل في مجال الطبيعة. والحقيقة أن الطبيعة تطورية والتاريخ تقدمي كما أكد ذلك هيجل موضحا اللبس الذي تركه موقف داروين جراء خلطه بين الوراثة البيولوجية والاكتساب الاجتماعي.

    - التصور الثاني: هو الذي ينظر إلى التاريخ نظرة إسكاتولوجية تفترض أن للتاريخ بداية ونهاية.

    - التصور الثالث: وتحمله النزعة الخطية التي تنظر إلى التاريخ وكأنه يسير في اتجاه خطي تراكمي متدرج بلا انقطاع.

    وبناء على ما سبق يرى إدوارد كار أن التقدم في التاريخ لا يرتبط بحركية الطبيعة ولا بالطبيعة البيولوجية للإنسان وإنما يرتبط بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي العام. التطور شيء والتقدم شيء آخر، قد يكون التقدم تطورا وقد لا يكون، إذ يتجاوز التطور إلى حدوث انعطافات كبرى أو طفرات. مثلما أن التقدم لا نهاية له ولا بداية ولا غاية،  ولا يتجه صوب أية حادثة أو مقصد أو هدف وإنما هو تغير منفتح في الزمان والمكان على مختلف الاحتمالات.

    2- موقف هربرت ماركوز: فكرة التقدم

    يميز هربرت ماركوز بين نوعين من التقدم عرفتهما الحضارة الغربية المعاصرة هما:

    - التقدم الكمي: أو التقدم التقني وهو التقدم الذي يقع على الأشياء فتحصل الوفرة الإنتاجية أو ما يسميه آدم سميث "الرفاهية الاقتصادية" أي ذلك التقدم الذي يساهم في ازدياد الثروة الاجتماعية وتلبية الحاجات ومضاعفتها.

    -التقدم الكيفي: وهو التقدم المتعلق بذات الإنسان لا بملكيته، إنه تقدم معنوي يحقق اتساع دائرة الحرية وتقليص دائرة الاستبداد والاضطهاد. فهو تقدم يلامس إنسانية الإنسان لذلك يصح أن يسمى بالتقدم الإنساني أو التقدم ذي الأهداف الإنسانية.

    إلا أنه لا يتحقق التقدم الإنساني إلا عبر التقدم التقني وإن كان  هذا الأخير ليس سببا كافيا لحصول الأول إذ هو عامل مساعد يحتاج إلى عوامل أخرى، لذلك يؤكد  هربرت ماركوز على أنه: "ليس التقدم الإنساني نتيجة أوتوماتيكية للتقدم التقني".

    المحور الثالث :   دور الانسان في التاريخ؟

    1- موقف لوي ألتوسير: التاريخ سيرورة دون ذات فاعلة

    يعرض لوي التوسير موقف هيجل من التاريخ فهو في نظره عملية اغتراب واستلاب في خط مستقيم وليست لها أية غاية خارجة عن ذاتها ولا يحركها الإنسان، إن التاريخ يتجاوز الكائن البشري، هذا الأخير الذي لا يتجاوز أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق غائية تاريخية تسلبه إرادته وحريته الذاتية، لهذا فالتاريخ سيرورة اغتراب دون ذات فاعلة  أي دون فاعلية إنسانية .

    إن الروح كمقام يتجلى فيه وعي الذات بذاتها يبقى مغتربا عن التاريخ في غربة عن الطبيعة، إن البنيات هي التي تحرك الناس وتصنع أدوارهم وتفسر سلوكاتهم. يقول ألتوسير: "إن التاريخ يُنظر إليه بما هو سيرورة اغتراب بدون ذات فاعلة، أو بما هو سيرورة جدلية غُفْل من كل ذات".

    2- موقف جون بول سارتر: الإنسان هو صانع التاريخ

     على خلاف موقف ألتوسير ترى الفلسفة الماركسية أن الإنسان هو "نتاج نتاجه الخاص" بمعنى أنه إذا كانت البنية الإنتاجية "أدوات، أنماط، علاقات" هي التي تصنع الإنسان فإن الإنسان هو الذي يصنع هذه البنية، أي أنه يفعل في التاريخ وإن كان منفعلا به في نفس الوقت، يقول انجلس: "إن البشر يصنعون تاريخهم على أساس الشروط المادية والواقعية السابقة". وبناء عليه يرى سارتر أن البشر هم الذين يصنعون تاريخهم بفعلهم وإرادتهم ووعيهم وليسوا مجرد وساطات حاملة لقوى لا إنسانية، لكن هذا لا يعني تغييب الشروط الواقعية والمادية السابقة، وإنما يعني أن للناس القدرة على تسخير هذه الشروط وتوظيفها أو تجاوزها. وحتى إذا خضع الشخص لقبضة التاريخ فهذا لا يفيد أنه لم يصنع التاريخ وإنما يفيد أن شخصا آخر هو الذي صنع هذا التاريخ ليخلص سارتر إلى قوله: "الإنسان يصنع التاريخ".

     

    نستنتج من الموقفين السابقين أن علاقة الانسان بالتاريخ علاقة معقدة، فحتى على المستوى النظري تمثل عويصة يستحيل معها تقديم جواب سريع أو حاسم. فمن جهة يخضع الناس إلى الشروط الموضوعية التي يستحيل الانفصال عنها ومن جهة أخرى لا تمثل هذه الشروط سوى تجسيدا لفعل الانسان في التاريخ. والواقع أن الإنسان يصنع التاريخ إذ يصنعه التاريخ، يخضع الناس لظروف الحياة لكنهم يمتلكون القدرة على تغييرها. وبهذا الصدد يقول بول ريكور: "التاريخ يصنع المؤرخ مثلما أن المؤرخ يصنع التاريخ".

    ------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

    « مفهوم الحقيقةالعلمية في العلوم الإنسانية »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق