• الحقيقة والصلاحيّة - بلانشي

    الحقيقة والصلاحيّة

    يجب أن لا نخلط بين صلاحية استدلال ما وحقيقة القضايا التي تكوّنه . وإليك ، على سبيل المثال ، استدلالين على غاية من البساطة :

    كل مثلث هو ثلاثي الأضلاع إذن فكل ثلاثي الأضلاع مثلث

    كل مثلث هو رباعي الأضلاع ، إذن فبعض رباعي الأضلاع مثلث.

    إذا فكرنا برهة من الزمن تبيّن لنا أن الاستدلال الأول غير مقبول منطقيا رغم أن القضيتين فيه حقيقيّتان ، وأن الاستدلال الثاني مقبول رغم أن القضيتين فيه باطلتان .

    وغالبا!ما نعبر عن هذا التمييز بأن نقابل الحقيقة المادية بحقيقة صورية ، وبأن ننعت استدلالا صالحا بأنه حقيقي من حيث صورته ، بصرف النظر عن حقيقة مادته ، أي عن محتواه . و لمّا كان المنطق لا يهتمّ إلاّ بهذه الصورة، سمّي منطقا صوريا. فما هي إذن صورة الاستدلال ، وماذا نفهم من عبارة حقيقة صورية ؟

    فلننظر في القياس التقليدي :

    كل إنسان فان        سقراط إنسان    إذن فسقراط فان 

    من الواضح - بادئ ذي بدء - أن صلاحية هذا الاستدلال لا ترتبط البتة بالشخص المعني فيه . فإذا كان هذا الاستدلال صحيحا بالنسبة إلى سقراط ، فهو صحيح أيضا بالنسبة إلى أفلاطون و ألسبياد ، أو بالنسبة إلى أي كان . ويمكننا إذن أن نعوّض فيه اسم سقراط بحرف " س "، يقوم بدور المتغير اللامحدد ، ويشير إلى المكان الذي يحتله اسم إنسان ما (...) و سنطلق على هذا المتغيّر " س "، الذي يمثل شخصا ما، اسم: متغير فردي ويمكننا وقتئذ أن نكتب استدلالنا بهذا الشكل المبسّط:

         كل إنسان فان          " س " إنسان          إذن ف " س " فان

    ولنتقدم خطوة ثانية : إن صلاحية هذا الاستدلال لا تتوقف أيضا على المفهومين الماثلين فيه: إنسان ، فان ، فمن الجائز إذن تعويضهما بغيرهما دون أن يفقد الاستدلال قوته ، وسأعمد ، بيانا لهذه الإمكانية ، إلى تعويض الكلمتين اللتين تعنيان هذين المفهومين بحرفين رمزيين هما: ف ، ج ، قادرين على تمثيل مفاهيم أيا كانت ، سيكونان متغيرين مفهوميين ، ومن ثم ينشأ شكل جديد :

    كل " ف " هو " ج "          " س " هو " ف "             إذن فإن " س " هو " ج "

    إنني أستخلص ، بهذه الطريقة، الهيكل المنطقي الاستدلالي ، بتجريده ، تدريجيا، من محتواه الأصلي . فالحروف الرمزية تشير فيه إلى أماكن شاغرة يمكن ملؤها بمحتوى ما، مع مراعاة شرط وحيد، وهو أن نضع مكان "  س " اسم شخص ، ومكان " ف " و " ج " ألفاظا تعبّر عن مفاهيم . فتلك الحروف شبيهة بأماكن البياض في " صيغة " مطبوعة يُطلب منّا إكمالها بالقلم ، من خلال إشارات وتعليمات تضفي - !حدها - على الورقة قيمة الإرشادات . والأمر هنا سواء بسواء . لم يعد أمامنا إلا شكل استدلال ، أو إن شئنا قالب استدلالات ، يعطينا استدلالا إذا ما صببنا فيه مادة. غير أنه ، مهما تكن هذه المادة ، فإنّ الاستدلال صحيح ، لأن صلاحيته لا تتوقف إلا على شكل القالب وهو شكل يظل ثابتا لا يتغير.

    تلك هي الحقائق التي يتابع المنطقي بحثها والنظر فيها . الحقائق الصورية التّي لا يتبقّى منها غير صياغتنا لها، إلي جانب الحروف الدالة على أمكنة شاغرة لمحتوى ممكن ، سوى عبارات ليس لها أيّ معنى تجريبي ، ولا تمثل من الخطاب إلا لحمته المنطقية وسداه مثل: لو. . . ، إذن ، كل ، هو ، و... 

                                               ر.بلانشي  "مدخل إلى المنطق المعاصر"

     

     

    « افلاطون... قصة فيلسوف الرياضيات التقليدية والمعاصرة ألبرت إنشطاين »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق