• الدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته.

    الدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته

    حوار مع الدكتور أحمد الفراك (أستاذ الفلسفة بجامعة عبد المالك السعدي بتطوان)
    10 يناير، 2015 

    الدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته.

    —————————————

    السلام عليكم.
    في البداية أشكركم جزيلا الدكتور أحمد على قبولكم طلب الحوار حول موضوع يتعلق أساسا بالدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته.

    1- قبل سبر أغوار الموضوع، الضرورة المنهجية ستلزمنا التوقف أولا عند دلالة مفهوم “الدرس الفلسفي”، فما المقصود به وما أسسه ومرتكزاته البيداغوجية والديداكتيكية باختصار مفيد ؟


    أولا أشكر الأستاذ الفاضل رشيد على أن خصني بهذا الحوار النوعي الذي يستشكل الدرس الفلسفي، ويحصل لي الشرف أن أكون محاوَرا في موضوع يشغلني باستمرار لأُبدي فيه رأيي انطلاقا من تجربتي المتواضعة في هذا الزمان وفي هذه البلاد.
    الدرس الفلسفي المقصود في السؤال هو مجموع إجراءات تنظم خبرات ومعارف وتقنيات معينة بجهد عقلي ينطلق من حصة الفصل لإثارة إشكالات وشرح مفاهيم وتحليل مواقف ونقد أطروحات وبناء معارف. ثم يمتد إلى خارج الفصل ليسائل الواقع والحياة والكون، سؤال الجدوى والفاعلية والغاية، فيمحص المعرفة الشائعة وينتقد فساد الاستدلال ويدفع الحجة بالحجة…ويرتكز على منطق التساؤل والاستبصار والاعتبار والنقد والمراجعة، ويستوعب الدرس بيداغوجيات متداخلة أحيانا ومتناوبة أخرى. وهذا الدرس بهذه المواصفات ليس سهلا ولا ميسرا للجميع، ولا تكفي فيه حصص التأطير التربوي أو كُتيبات البرامج والمناهج على فائدتها الجمة.


    2- انطلاقا من تجربتكم الفصلية، ما هي الخلاصات التي خرجتم بها من خلال تدريسكم لمادة الفلسفة ؟


    درس الفلسفة في نظري مُتعة كبيرة، تساؤلات قاصدة منتقاة، ومحاولات أجوبة متناقضة، ومواقف فلسفية مختلفة، وحرارة نقاش ناذرة، وإصغاء متبادل بين الطلبة والأستاذ، وحوارات تزاوج بين النظر المجرد والواقع اليومي للتمثيل، وترفع الواقع إلى النظر للتعريف…كل ذلك من غير حرج البحث عن الترجيح أو الإجماع أو القول الفصل كما عند الفقهاء، وهكذا تمر سويعة الفلسفة بسرعة بعيدا عن وثوقية الـمُعلم التقليدي وتحيزه المرضي.
    هذا من جهة ومن جهة أخرى أقول أن الفلسفة مجرد مادة من بين مواد مقررة تُدرس للتلاميذ  والطلبة، وليست بُعبعا يخشى من تدريسها نشر الإلحاد أو العبثية، وإن اصطبغت في فترة ما من تاريخ العرب المعاصر بذلك نتيجة انتشار التفكير الشيوعي قبل أن ينحسر. بل الفلسفة تساهم في توعية التلميذ/الطالب بإنسانيته ووضعه بوصفه فردا تحكمه وضعيات صلبة وأخرى سائلة، وأنه جزء من تنشئة وثقافة وموضوع، وأنه يحاول التساؤل والتحرر والإبداع باستمرار، كما يمكن لرأيه أن يؤثر وأن يضع إشكالا ويحل مشكلا قائما كما قدم الكثير من الفلاسفة حلولا لمشكلات الإنسانية وكانوا سببا لإنقاذ كثير من الأمم من الاستبداد باسم الدولة أو باسم الدين.


    3- ما هو تقييمكم لوضع الدرس الفلسفي بالمغرب في ظل العدة البيداغوجية القديمة – الجديدة ؟


    تفنى البيداغوجيات التنميطية المتسارعة ويبقى الدرس الفلسفي بمتعته متمنعا عن التطويع والتطبيع. متخلصا من إسار الرهانات السياسية الخاسرة، وإن استثنينا عوامل تدني مستويات الطلبة تبعا لتدني سياسات التعليم في بلادنا، يرتبط الدرس الفلسفي في جانب كبير منه بالأستاذ وبالفضاء العام، فإذا كان الأستاذ واعيا بخطورة وجسامة مسؤوليته، قائما بمهمته عن جدارة، وكان الفضاء العام يسمح بحرية التفكير والتعبير والسلوك فسيُجدي الدرس ويُثمر. أما إذا تقاعس المُـدرس أو استعلى، وكان الخوف من التفكير ومحاربة المعرفة وقمع السؤال واختطاف الحقيقة، وتلقين التاريخ على أنه مطلق. فسلام على الفلسفة المُبدعة الناقدة.

    4- ألا يمكن أن نقول أن الدرس الفلسفي يبقى مكبلا عندما يؤطر بسياق بيداغوجي معين ؟


    التفلسف على خلاف باقي أفعال التفكير يغلب عليه التساؤل والنقد ونقد النقد والابداع، بالإضافة إلى اكتساب مهارات الفهم والتعبير والتحليل والتركيب والمحاججة والاستنتاج، ويتضايق أحيانا من القيود البيداغوجية التي تريد أن تمسخه ليصير خَبرا وخُبزا وواقعة تاريخية ونقطة تمنح للطالب والطالبة نهاية المسلك ونهاية الفصل.

    5- ما رأيكم في الانتقال الذي طبع عملية تدريس الفلسفة بالمغرب، أي أنه في السابق كانت المادة المعرفية هي الغاية المتوخاة في ظل ما يسمى ببيداغوجية الأهداف، بينما الآن أضحت الرؤية موجهة نحو تمكين التلميذ من إعمال عقله وحثه على التفكير، ومنطق الفحم المعرفي لم يعد من أولى الأولويات ؟


    الفلسفة منفتحة على جميع البيداغوجيات والمعارف تأخذ منها لتطوير مهماتها وتوسيع موضوعاتها، لكنها متجاوزة للتحديدات المرسومة في نفس الوقت وغير منضبطة بمقوماتها، وبالتالي لم يكن هناك انتقال في عملية التدريس من التحصيل الكمي إلى اكتساب الكفايات. وإلا متى كانت الفلسفة أصلا لا تحرض الطالب على إعمال عقله وحثه على التفكير والنقد؟ وما أصابها عموما هو ما أصاب التعليم المغربي من نكوص وتقهقر. نتمنى أن نتجاوزه مستقبلا.


    6- ألا ترى معي الدكتور أحمد أن الطالب في العصر الحالي لا يكترث إطلاقا لما هو مخطط له من طرف الأستاذ، بل ما يفكر فيه أولا وأخيرا هو النقطة فحسب ؟


    حُق للطالب أن يفكر في النقطة أولا، ففيها تكمن “مصلحته” وبها يحقق “نجاحه” ومن خلالها يكسب مكانته في المجتمع، بل عن النقطة يسأله الجميع، حتى المـُدرس نفسه. فكيف لا يعبأ بها وهي معيار تقدمه وتأخره، جدّه وهَزله؟
    غير أن هذا لا يعفي الأستاذ من إعداد وبناء درسه بمعية الطلبة والطالبات ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وليس عليه أن يصير الناس جميعا فلاسفة، لأنه ليس بمستطاعه تغيير وضع اجتماعي وسياسي ملتفت عن المعرفة عموما إلى تحقيق الكفاية المعيشية، المـُدرس يساعد من يرغب، ويحفز من يفتر، ويوقظ من يغفل، وفوق طاقته لا يُلام. لكنه لا يحيي الموتى ولا يبحث عن المفقودين. ونحن نعرف أن نظمنا التعليمية لا تبحث عن النوعية والجدوى بقدر ما تتصيد رضا المؤسسات الدولية المانحة للقروض.

    الدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته.


    7- كيف يمكن للدرس الفلسفي أن يحقق أهدافا قيمية تساعد على تعزيز صرح المجتمع المغربي ؟


    يمكن للدرس الفلسفي أن يؤثر إيجابيا كما يمكن أن يؤثر سلبيا، يكون إيجابيا إن هو تخلص من الطريقة التقليدية التي تعتمد التلقين والاستظهار، وانتقل ليكون محط التقاء رغبة الطالب ونجابته بكفاءة الأستاذ المعرفية والأخلاقية، فيكون الأستاذ (ة) قدوة للطالب بأخلاقه وسيرته من قبيل احترام الطلبة وانتظام الحضور والمساواة بينهم وضبط الوقت ومراعاة الظروف الخاصة.. وفي نفس الوقت ينبغي أن يكون محبا لمادته، متمكنا من موضوعات الدرس؛ مطلعا على إشكالاتها وقضاياها ومُعدا لدرسه قبل المجيء إلى الفصل… بهذين الشرطين في نظري تنبث القيم الإنسانية النبيلة لدى الطالب ويتشبع بها وينخرط فيها من داخل الدرس الفلسفي: الجدية، الحرية، الكرامة، العدل، المحبة، الأخوة البشرية، طلب العلم…


    8- كيف ينبغي أن تدرس الفلسفة من وجهة نظركم، وهل ثمة مقترحات عملية لتحسين وضع الدرس الفلسفي بالمغرب ؟

    الدرس الفلسفي بالمغرب: وضعه ورهاناته.

    في المغرب تجربة فلسفية غنية ومهمة قاومت وما تزال تقاوم العجز والكسل والتبعية، يمكن الاستفادة منها عبر تقويمها وتحديثها ومدها بالوسائل الديداكتيكية والبيداغوجية التي تلائم طبيعتها، وهذا يتطلب أولا إرادة سياسية حقيقية مقتنعة بجدوى درس الفلسفة في إحداث تحول ثقافي وقيمي يوافق ويستصحب التحولات الواقعة في زماننا، ولم لا قد يقودها ويوجهها لتقدم فائدتها الاستراتيجية التي لا تقاس بآنيتها. أي القطع مع الذهنية التحكمية التي تمارس الوصاية على الفلسفة التي تسهم في ترذيل مُدرس الفلسفة.
    كما يتطلب إعداد جيل من المُدرسين يتلقون تدريبا نوعيا وشاملا يؤهلهم نفسيا ومعرفيا ومنهجيا للإبحار بسلام في لجج الدرس الفلسفي المهدد بكثير من المخاطر. فننتقل من التدريس بشروط التشاؤم واليأس في الحاضر إلى التدريس بشروط التفاؤل والإنجاز في المستقبل.

    بتاريخ 10 يناير، 2015 

    المحاوِر: رشيد أمشنوك. جريدة أكابريس 

    ----------------

    بريد التواصل   elfarrak@gmail.com

    « درس الرغبةالمنطق عند الغزالي ومنهجه في التقريب والتشغيل »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق