• ماهية الحقيقة

     

           في ماهية الحقيقة

    مارتن هيدجر 

          "لقد انكشفت ماهية الحقيقة كحرية. هذه الأخيرة هي عملية ترك الموجود المنفتح يوجد، التي تكشف الموجود. كل سلوك منفتح يحدث تاركا الموجود يوجد ومتخذا موقفا من هذا الموجود الخاص أو ذاك. لقد جعلت الحرية كل سلوك متوافقا، من قبل، مع الموجود في كليته من حيث إنها استسلام ام انكشاف هذا الموجود في كليته وكما هو. وهذا التقبل (التهيؤ) لا يترك نفسه أبدا يدرك "كحالة من حالات النفس". إذ أننا بذلك نحرفه عن ماهيته ونفهمه انطلاقا من مدلولات ("كالحياة" و"النفس") لا يمكنها هي ذاتها أن تطمح إلى شرف الماهية إلا ظاهريا وطالما أخطأنا في فهم هذا التقبل وحرفنا دلالته. إن الموافقة التقبلية أي التعرض التخارجي أمام الموجود في كليته لا يمكن أن تكون "معاشة" و"محسوسة" إلا لأن "الإنسان، وهو الكائن المزود بإحساس وشعور" قد أسلم نفسه لموافقة كاشفة للموجود غي كليته، دون أن يستشعر ماهية هذا التهيؤ التقبلي. إن كل سلوك للإنسان التاريخي-سواء أحس بذلك بوضوح أم لا، وسواء فهمه أم لا- هو سلوك متوافق، وبهذا التوافق فهو محمول في الموجود في كليته.

          إن درجة تجلي الموجود في كليته يختلف عن مجموع الموجودات المعروفة فعلا. وعلى العكس من ذلك، فإنه عندما يكون الموجود معروفا معرفة أقل من طرف الإنسان وليس مدركا إلا بشكل أولي من طرف العلم، فإن تجلي الموجود في كليته يمكن أن يتأكد بصورة أكثر أساسية أكثر مما هو الأمر عندما يصبح ما هو معروف ومعطى باستمرار للمعرفة غير قابل للاستنفاذ بالنسبة للنظر، وعندما لا يكون هناك شيء يقاوم حماس المعرفة، وذلك عندما تنطلق قدرة التقنية للسيطرة على الأشياء في هيجان لا نهاية له. وبالضبط في هذه التسوية التسطيحية العارفة بكل شيء من طرف معرفة، لم تعد سوى مجرد معرفة، يخفت تجلي الموجود، ويغرق في الخواء (nullité ) الظاهر لما ليس فيه اختلاف لما ليس إلا نسيا منسيا. إن ترك الموجود يوجد، الذي هو مولد التوافق (توافق الدازاين مع الموجود في كليته)، يغمر ويسبق كل سلوك منفتح يحدث داخله. فسلوك الإنسان مخترق من قبل تجلي الموجود في كليته. وهذه الـ"في كليته" تظهر مع ذلك بالنسبة لأفق الانشغال والحساب اليوميين، كشيء لا يمكن إدراكه ولا التنبؤ به.
           إنه لا يمكن أحدا من التوصل إليه انطلاقا من الموجود الذي تجلى منذ حين سواء كان هذا الأخير منتميا إلى الطبيعة أو إلى التاريخ. ورغم أنه يخترق باستمرار كل شيء يجعله متوافقا معه، فإنه يبقى، مع ذلك هو ذاته اللامحدد والممتنع عن التحديد، ولذلك فنحن غالبا ما نخلط بينه وبين ما هو أكثر تداولا وأقل بروزا. وما يخترقنا بهذا الشكل (من حيث إنه يجعلنا نتوافق) ليس لا شيء، بل هو، على العكس من ذلك، إخفاء للموجود في كليته. وبما أن ترك الموجود يوجد يترك الموجود يكون هو الذي يحيل إليه في سلوكه الخاص، وبذلك يكشفه، فإنه (أي ترك الموجود يوجد) يحجب الموجود في كليته. إن ترك الموجود يوجد هو في ذاته إذن وفي نفس الوقت اختفاء. في الحرية المنفتحة للدازاين يتحقق اختفاء الموجود في كليته وذاك هو الحجب والاحتجاب (L’obnubilation ). 
    ترجمة: د. محمد سبيلا
    « الواجب أسمى من المصلحة سقراط: فيلسوف الحوار والتوليد »

  • تعليقات

    لا يوجد تعليقات

    Suivre le flux RSS des commentaires


    إظافة تعليق

    الإسم / المستخدم:

    البريدالإلكتروني (اختياري)

    موقعك (اختياري)

    تعليق