-
جريدة المساء في حوار مع الدكتور أحمد الفراك
س1: ما هي الدواعي والأسباب لاختيار موضوع الدراسة حول علاقة المسلمين بالغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني؟ وكم دام البحث؟
شكرا جزيلا للأستاذ رشيد على اختيار موضوع أطروحتي للدكتوراه أرضية للحوار على صفحات جريدة المساء مشكورة، وهو موضوع "علاقة المسلمين بالغرب والتأسيس القرآني للمشترك الإنساني".
أما بخصوص الدواعي لاختيار هذا العنوان فيمكن اختزالها في:
1- الرغبة في بحث موضوعٍ فلسفي يلامس مشكلات يعيشها الناس اليوم ولها علاقة باعتقاداتهم وتصوراتهم وأحكامهم وتمتد قضاياها من الفكر إلى جميع مجالات الواقع؛ التربوية منها والاجتماعية والعلمية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ويحملونها معهم إلى المستقبل. فكان أن التقت هذه الرغبة المتصلة بمشكلة مع فتح تكوين للدكتوراه بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة بني ملال، ولا زلت أتذكر اليوم الذي سمعتُ فيه خبر الإعلان عن هذا التكوين وقد كنتُ يومذاك راجعا من مدينة مراكش حيث وضعت ملف التسجيل في سلك الدكتوراه بشعبة الفلسفة في كلية الآداب بمدينة مراكش في موضوع يتمحور حول حضور المنطق في اللغة العربية.
2- العلاقة التي تربط المسلمين بالغرب مثقلة بآثار الصدام التاريخي بينهما، مع ما كان يتخللها من علاقات تلامس وتواصل، إلا أنها تجر معها أزمة مركبةً تنبئ من جهة عن عمق التفاعل سلبا وإيجابا بين الحضارتين، وعن كون المشكلات الدينية والثقافية بينهما ناجمة عن وجود التلاقي والتشابه في الأصل، وليس عن الاختلاف الحاد أو التناقض. ومن جهة أخرى تكشف عن وجود اختلالات منهجية ومعرفية عميقة عند الطرفين، تجد أثر هذه الاختلالات في جميع الحقول وعلى كل المستويات، وهي تزداد في الاتساع مع مرور الزمن وتطور التقنية وتسارع الأحداث وتداخل المصالح، مما يستدعي معالجة جديدة لهذه المشكلات تستحضر الواقع المتحول الذي تعيشه لإنسانية اليوم وتستشرفه في المستقبل، وتركز على المشترك الإنساني الذي يُغني التفكير الإنساني ويوفر السند الفلسفي النظري للمضي قدما نحو التكامل والتعاضد بين بني الإنسان.
س2 : ما هو "الغرب" الذي تقصدونه في دراساتكم ؟ هل الغرب الحضاري أم الغرب التاريخي؟ أم الغرب المتخيل؟
معلوم أن مفهوم "الغرب" المعاصر اليوم لا تحمله المعاجم اللغوية والاصطلاحية، لكونها تقتصر على الدلالات الجغرافية والاجتماعية المتداولة في الماضي، ونحن نقصد الغرب المعاصر لنا اليوم بوصفه نظاما معرفيا تتداخل فيه العقيدة والفكر والثقافة بالفلسفة والقانون والجغرافيا. وهو مفهوم تطور بشكل ملحوظ تبعا لتغير موازين القوى في العالم، وتبدُّل النماذج الحضارية. أي أن المفهوم رحل من معناه الجغرافي إلى معنى ثقافي وإيديولوجي جديد، غير مرتبط بمنطقة جغرافية معينة كما كان عليه الحال في السابق. وإن كان لم يمتثل أبدا للمعنى الجغرافي الذي يوحي به، فقد راهن منذ البدء على المقاصد الثقافية والسياسية والدينية، ومن ثم أثبت مجموعة من الصفات والخصائص العرقية والحضارية والدينية على أنها ركائز قارة، تشكل أسس هويته.
فلا يمكننا الحديث عن صورة موحدة ونمطية تنسحب على الغرب برمته، وإن تشكلت الصورة العامة عن المسلمين عبر تراكم جملة من التجارب والأحداث والمواقف التاريخية التي يحملها التراث الديني والاستشراق الغربي عنهم باعتبارهم مخالفين دينيًا، وما تكرس من خلال القراءات المتعددة للتعارف والتبادل الذي وقع بين المسلمين وغيرهم بالأندلس، وزيارات الوفود المسيحية إلى القدس، ودخول صقلية سنة 1060م، وطليطلة سنة 1085م، واحتلال القدس سنة 1099م، وقد أدى هذا الالتقاء المباشر إلى تكوين رؤية معرفية غربية توارثها العقل الغربي إلى اليوم، وإن كانت هذه الرؤية متعددة الأبعاد؛ منها ما هو واقعي مستشف من ممارسات فعلية لبعض المسلمين أو من كتاباتهم، ومنها ما هو في الغالب من استصناع البراغماتية اللاهوتية التي تتوسل بمنهجية انتقائية متحيزة، هدفها أن تُبعد الناس عن التأثر بدين المسلمين وقيمهم ومعرفتهم.
س3 : حاولتم في دراستكم أن تنهلوا من أكثر من حقل معرفي، و أكثر من اتجاه منهجي، النقدي و المقارن والتفكيكي و التحليلي...كيف تمكنتم من التوفيق بين المناهج ؟
بخصوص المنهج المتبع في إعداد الأطروحة فقد اقتضت طبيعة البحث وموضوعه الجمع بين عدة مناهج:
1- منهج تحليلي: يعطي الأولوية للأنساق المعرفية، ويعمل على تحليل النصوص والمعطيات العلمية والمواقف الفكرية والاجتهادات التاريخية، وإعادة تركيب عناصرها بشكل يخدم أطروحة البحث ويجيب عن أسئلتها.
2- منهج تاريخي: يستحضر السياقات التاريخية لإنتاج المعرفة وتطورها، سواء في تاريخ المسلمين أو في تاريخ الغرب، ذلك أن المعرفة تبنى عبر مراحل زمنية مختلفة يؤثر السابق فيها في اللاحق، وهو ما يُسعفنا في استيعاب إشكالات الواقع الحالي عبر إرجاعها إلى جذورها وأسبابها التاريخية، وتوقع اتجاهاتها في استشراف المستقبل. فالمنهج التاريخي عموما يساعد على حل مشكلات معاصرة على ضوء خبرات الماضي.
3- منهج نقدي: يروم الاعتماد على نقد منهجي ومعرفي للمعرفة الشائعة في الفكر الإسلامي من جهة وفي الفكر الغربي من جهة ثانية، سواء كانت معرفة فقهية أو فلسفية مادامت لا تمثل في النهاية سوى اجتهادات بشرية حول النص أو حول النفس أو حول الكون، وعدم التسليم بالأحكام والمسلمات المنهجية والمعرفية إلا بعد إعادة فحصها، وهذا يقتضي الجمع بين المراجعة والتقويم والاستدراك والنقد والاعتراض والتجاوز.
4- منهج مقارن: يعمل على تتبع المجالين الثقافيين؛ المسلمون والغرب، ورصد القيم المشتركة نظريا في النصوص المؤسسة للرؤيتين المعرفيتين، وعمليا في حياة الناس وتصرفاتهم، وكشف علاقة السلوك التاريخي بالمبادئ الموجِّهة، وكذا العوائق التي حالت دون تجسيد تلك الأصول في الواقع التاريخي.
س4: كيف تعاملتم مع مسألة المراجع؟ هل هناك وفرة أم ندرة؟ وهل استعنتم بالمراجع الأجنبية وبلغات أخرى غير العربية؟
تنوعت مراجع البحث بتنوُّع الأسئلة التي تطرحها إشكاليته، فسؤال المشترك الديني بين المسلمين وغيرهم يستوجب البحث في النصوص المؤسسة للدين بدءا من القرآن الكريم وأمهات التفاسير، وكتب الصحاح والسنن والمساند في الحديث النبوي، والكتاب المقدس، والشروح المتصلة به، وفلسفة الدين. وسؤال المشترك العلمي يفرض الاطلاع على كتب فلسفات العلوم وتاريخ العلوم ومناهج العلوم عند المسلمين وغيرهم، والمشترك العمراني يتطلب الاطلاع على مؤلفات كثيرة في العمران البشري وعلم الاجتماع وتاريخ الحضارة، وسؤال المشترك البيئي الطبيعي يحتاج جوابه إلى الاطلاع على كتب وتقارير وإنجازات الأشخاص والمؤسسات الرسمية وغير الرسمية المهتمة بالبيئة في العالم.
بالإضافة إلى ذلك استفدت من مؤلفات فلاسفة وعلماء ومفكرين عرب ومسلمين يصعب عدهم، أذكر منهم: طه عبد الرحمن، علال الفاسي، محمد عزيز الحبابي، روجي غارودي، علي عزت بيغوفيتش، عبد السلام ياسين، زيغريد هونكه، عبد الوهاب المسيري، مالك بن نبي، إدوارد سعيد، محمد الغزالي، محمد اعمارة، اسماعيل الفاروقي، مراد هوفمان، عبد المجيد النجار، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، عبد المجيد الصغير، حسن حنفي، عبد الإله بلقزيز، طه جابر العلواني، حمو النقاري، سعيد شبار، محماد رفيع، إدريس مقبول... وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين مثل إريك فايل، إيمانويل كانط، سيرج لاتوش، أوغست كونت، هانس كوكلر، توشيهيكو إيزتسو، جون هيك، برتراند راسل، برنار لويس، إرنست رينان، جون بيير فرنان، فريدريك هيجل، غاستون باشلار، ميشيل فوكو، إدغار موران، جول راولز، صمويل هنتغتون، فرنسيس فوكوياما، ...الخ، كما اطلعت على مؤلفات ومقالات وتسجيلات كثيرة تناولت قضايا "الإسلام والغرب" أو "المسلمون والغرب" أو "حوار الأديان" أو "حوار الحضارات" أو "تعارف الحضارات"...
س5 : ما رأيكم في الدراسات التي تناولت مسألة الإسلام و الغرب؟ وهل أجابت عن سؤال طبيعة العلاقة بين الجانبين بل وحتى استشراف مستقبلها؟
يلاحظ المهتم بالموضوع أن هناك كتابات لامست كنه المشكلات إلا أنها قليلة جدا مقارنة مع أغلب الكتابات التي كانت عاطفية وسطحية. وفيما يتعلق بالمراجع غير العربية أقصد بالإنجليزية والفرنسية لا تكاد تعثر فيها على مؤلف يختص بمعالجة قضية المشترك الإنساني، أو يعالج العلاقة بين المسلمين والغرب في ضوء المشتركات الكبرى بينهما، إلا أن تكون بعض الدراسات المستعجلة أو المقالات أو الإشارات المتفرقة هنا وهناك، وقد اعتمدت على بعضها وذكرت ذلك في متن البحث. وإن كانت أغلب الدراسات لا تؤسس للمشترك إلا في بعض الجوانب الثقافية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية بعيدا عن الأسس الكلية التي نسعى إلى كشفها.
وباللغة العربية لحد إنهاء البحث لم نعثر على دراسة جامعة ومفصلة لموضوع المشترك الإنساني بأبعاده الدينية والعلمية والعمرانية والبيئية، ونأمل أن يكون بحثنا هذا إسهاما متواضعا في سبيل التأسيس المنهجي والمعرفي العميق لهاته النظرية، والتقعيد العلمي لها. إلى جانب الجهود التي يبذلها العديد من الباحثين ومراكز البحث التي وصلتنا في شكل مقالات ودراسات في دوريات ومجلات مختلفة ومواقع إلكترونية، أذكرها في هوامش البحث، وبين مراجعه.
س6 : ما هو المشترك الجامع بين الإسلام / الحضارة الإسلامية وبين الغرب ؟
لا شك أن العالم مؤلف من ثقافات مختلفة، إلا أن تعددها ينبئ عن وحدتها الأصلية، ولا يمنع من إيجاد قواسم مشتركة كبرى يلتقي فيها كل بني الإنسان على اختلاف عوائدهم وعاداتهم، وأقوالهم وأفعالهم، وتتلاقح فيها حضارتهم وتتكامل ثقافاتهم، وتلتقي مصالحهم ويحصل التعارف والتعايش والتعاون. وبهذه القواسم نتحدث عن الحضارة الإنسانية المشتركة التي تؤسسها الأصول الدينية والعلمية والطبيعية والعمرانية، وما تحمله من قيم كونية خالدة خلود الحياة الإنسانية على الأرض. ويعد الدين في كُلياته الكبرى ومقاصده العليا أهم الأسس التي يقوم عليها المشترك بين المسلمين والغرب، فهو شجرة واحدة ممتدة جذورها عبر السلسلة النورانية النبوية إلى مرحلة ختم الرسالات، وترتكز فلسفة الدين أساسا على مبدأ التوحيد، وهو المبدأ العقدي والمعرفي والسلوكي والعمراني الذي جاء به جميع الأنبياء ودعوا أقوامهم لفهمه والعمل بمقتضياته، وقدموا لهم الأسوة مِن أنفسهم ومَن معهم مِن الأصحاب والحواريين والأتباع، فكان الأنبياء إخوة يؤسسون لحضارةِ الأخوة. أما الذين يصرحون بأنه لا دين لهم فهم قلة في العالم من جهة ولا يضرهم الدين في كلياته من جهة ثانية لأنه ليس مذهبا نقصد وإنما كليات الرسائل الإلهية التي لا تختلف فيها المِلل بتعبير الشاطبي رحمه الله. إضافة إلى أن المعرفة التي أنتجتها العلوم الطبيعية في مختلف تخصصاتها وخصائصها هي "مشترك إنساني عام، وذلك لأن مناهجها تحاول أن تتحقق بالحياد العلمي، ولأن التجربة الملموسة بالحواس المادية عموما هي السبيل لاكتشاف "حقائق" هذه العلوم، التي هي بنت الدليل، والدليل لا يختلف باختلاف مذاهب وعقائد وأجناس وفلسفات المكتشفين والباحثين. وقس على ذلك المشترك الطبيعي والحضاري والبيئي والفني...
س7 : في مقابل صراع الحضارات النظرية الهنتكتونية هل يمكن القول بحوار الحضارات ؟ وكيف السبيل إلى ذلك؟
نظرية صراع الحضارات قديمة في التاريخ، وقد أججها في النصف الثاني من القرن العشرين المستشرق الأمريكي برنار لويس في مؤلفاته ورسائله وتقاريره التي كان يقدمها إلى الدبلوماسية الغربية عموما والأمريكية خصوصا، والتي رسم من فيها صورة سوداوية عن دين الإسلام وتاريخ المسلمين ونواياهم المستقبلية، ومنها استقى صمويل هنتغتون نظرته العدائية لحضارة الإسلام، وبالتالي تحريض الغرب لنهج سياسات تحاصر المسلمين وتُشتت جمعهم وتُضعف قوتهم. وهي نظرية يمكن نقدها وتجاوزها بإعداد الأنموذج الحي على مستوى التصور المرجعي للمسلمين أولا، والذي ينبغي أن يواتي اللحظة التي نعيشها في العالم وليست تلك التي محاها الزمن أو أرادنا، ثم على مستوى الإنجاز الحضاري العملي ثانيا.
س8 : ما هي معالم نظرية المشترك الإنساني التي أسس لها القرآن الكريم؟
اقتنعنا بأن تجاوز الأزمة المركبة التي يعيشها المسلمون اليوم وإصلاح المواجع التي خلفتها بغية تحقيق الإصلاح في المنهج والمعرفة والواقع، والانتصار لحضارة المشترك الإنساني لا يتم إلا من خلال إصلاح جذري للنظام الفكري للعقل المسلم أولاً، والتخلص من آفات التقليد والاستتباع، وحيث تعاني ثقافة المسلمين من جملة اختلالات أقعدتهم عن إقامة أنموذج معرفي يستقيم فيه النظر على جادة المنهاج القرآني النبوي بخصائصه العالمية والشمولية والغائية والتكاميلة والاستيعابية والوسطية. وبتربية العقل المسلم التربية الشاملة والعميقة يُسهم المسلمون من جهة خيريتهم في تأسيس حضارة المشترك الإنساني، باعتبارها الحضارة الوارثة للإنجازات. وليست حضارات الصراع التي تؤججها فلسفات الكراهية الآيلة إلى زوال. وهذا يتطلب اجتهادا تجديديا جماعيا وشاملا، عبر عملية نقدية ضرورية لكل ما وَصَلَنا مِن تراثنا أو من تراث غيرنا، ومراجعة منهاجية تعيد ترتيب أولويات التفكير والإنجاز من جديد في ضوء المستجدات الحياتية الواقعة والمستقبلية، من خلال مقومات مجالنا التداولي.
أثناء هذا العملية نجد أن مشروع المشترك الإنساني ينسجم تماما مع الاهتداء بالقرآن الكريم المنـزل مِن لدُن حكيمٍ عليمٍ بمَن خلَق وبما يصلح لهذا الخلق. فهو كتاب عالمي بخطابه وموضوعاته ومقاصده، وهو برهان وفرقان به يتميز الحق من الباطل والخير من الشر، والإنسان مخلوق يتفاعل مع جميع القيم الثقافية والأنساق الحضارية، ليُقومها ويتمم مكارم أخلاقها، ومع جميع المناهج المعرفية، ليستوعبها ويصححها ليسمو بها. فهو خاتم الرسالات والمهيمن عليها هيمنة تصحيحية إتمامية، الذي هو توحيد الله والتخلق بقيم الهدى ودين الحق في إطار الأصل الآدمي والحنفية الإبراهيمية، وليست هيمنة إلغائية أو إقصائية. والتاريخ شاهد على أن رسالة القرآن الخالدة تحتضن التفاعل الأكبر بين الأجناس والأعراق والشعوب والأمم، وقادرة على استيعاب قضايا العالمين وتقديم الأنموذج الناجح، الذي يرتبط نجاحه بالتركيز على الأسس المشتركة بين الإنسانية والاعتراف بتكامل الثقافات وتداخلها وتنوع عناصرها.
ومعالم هذه النظرية تستشف أكثر من خلال الاطلاع على البحث.
س 9: كيف تقيمون مستوى مادة الفلسفة بالمغرب: تعليما و ثقافة؟ ثم واقع البحث العلمي بالمغرب؟
الفلسفة عموما تشغيل للعقل وتحريض له على السؤال والنظر والنقد والحوار، والتفلسف فعل تدليلي لا يقبل الخطابات التضليلية والتغليطية الائتمارية التي تتسلط على الإنسان وتسحبه إلى التولي والجمود، والدرس الفلسفي هو مجموع إجراءات تنظم خبرات ومعارف وتقنيات معينة بجهد ذهني ينطلق من حصة الفصل والمحاضرة لإثارة إشكالات وشرح مفاهيم وتحليل مواقف ونقد أطروحات وبناء معارف. ثم يمتد إلى خارج الفصل ليسائل الواقع والحياة والكون، سؤال الجدوى والفاعلية والغاية، فيمحص المعرفة الشائعة وينتقد فساد الاستدلال ويدفع الحجة بالحجة…ويرتكز على منطق التساؤل والاستبصار والاعتبار والنقد والمراجعة.
وأخطر ما يهدد التفلسف في واقعنا العربي والإسلامي هو طغيان الإيديولوجيا على المعرفة، وسيطرة النزعات الصبيانية على الدرس الفلسفي، والسبب في ذلك في نظري هو عدوى اللائكية الفرنسية أو قل الدهرانية التي فصلت الأخلاق عن الحياة وعن الدين، وصورت للناس باطلا أن الدين والفلسفة لا يلتقيان، وأن التدين والتفلسف لا يجتمعان.
وأخيرا كما سبق أن قلت "الدرس الفلسفي يرتبط في جانب كبير منه بالأستاذ وبالفضاء العام، فإذا كان الأستاذ واعيا بخطورة وجسامة مسؤوليته، قائما بمهمته عن جدارة، وكان الفضاء العام يسمح بحرية التفكير والتعبير والسلوك فسيُجدي الدرس ويُثمر. أما إذا تقاعس المُـدرس أو استعلى، وساد الخوف من التفكير ومحاربة المعرفة وقمع السؤال واختطاف الحقيقة، وتلقين التاريخ على أنه مطلق. فسلام على الفلسفة المُبدعة الناقدة".
س10: لفت انتباهي تنويه وشكر للدكتور طه جابر العلواني رحمه باعتباره ساعدكم في بلورة كيف إشكالية الموضوع كيف ذلك؟ وما تقييمكم لتجربته في المعهد العالمي لكفر الإسلامية/ وأطروحة إسلامية المعرفة؟
بالفعل تبادلت مع الدكتور طه جابر العلواني رحمه الله رسائل كثيرة تهم بعض قضايا البحث العلمي، ويرجع إليه الفضل في اقتراح بعض مفردات مشروع هذا البحث ومواكبته في مراحله الأولى، ولما انتهيت وناقشت الأطروحة سُرَّ بذلك وهنأني بحرارة، وطلب مني أن أحتفظ له بنسخة بعد طبعه، إلا أن دار النشر والتي هي المعهد العالمي للفكر الإسلامي تأخرت كعادتها في إخراج المخطوط كتاباً رغم الموافقة على طبعه قبل ثلاث سنوات والتعاقد قبل سنتين. حتى توفي العلواني رحمه الله ولا يزال البحث في عهدة المعهد العالمي الذي لا يسر فعله هذه السنوات الأخيرة وخاصة مع ذهاب الرواد الأوائل، ورحم الله الدكتور اسماعيل راجي الفاروقي.
أما أطروحة إسلامية المعرفة فقد قدمت خيرا كثيرا للباحثين في الفكر الإسلامي، ولا ينكر هذا الخير إلا مكابر أو جاهل بتلك الإنجازات العلمية والفكرية والثقافية الكثيرة. غير أنها لا تكفي لتكون مدخلا وحيدا لتغيير ما بالأمة أو تجديد دين الإسلام أو إعادة تشكيل العقل المسلم عبر "أسلمة" ما ينتجه الآخرون ومواءمته مع ما عند المسلمين.
س11: ما هي الصعوبات التي واجهتكم أثناء مرحلة الإعداد للأطروحة؟ وما هي مشاريعكم المستقبلية؟
لا يوجد بحث علمي من غير صعوبات تعترضه، وهي نفسها قد ترتد محفزات لمواصلة البحث ومكابدة مشاقه. أما عن بعض المشاريع المستقبلية القريبة فيمكن الحديث عن مشروعين متكاملين هما:
1- مشروع تعميق النظر في سؤال تجديد الفكر الإسلامي العربي من خلال مدرسة أستاذي الفيلسوف طه عبد الرحمن الذي أثل نظرية علمية جديدة تعيد الاعتبار للمنهج وللإنسان وللأخلاق، وتساعد الباحث والمفكر على امتلاك آليات التفكير النقدي والإبداعي الذي لا يجمد على المعارف الموروثة ولا المعارف المنقولة بل ينهض إلى مضاهاتها والإتيان بما يمكن أن يستوعبها ويتجاوزها.
2- مشروع الاهتمام بمبحث نظري منهجي في المنطق المعاصر يدعى التفكير النقدي، نحاول تقريبه إلى الطلبة والطالبات لتجديد وتجويد طرائق التفكير من جهة، والإسهام في تطوير هذا الفرع من المنطق من جهة ثانية. إن شاء الله.
-
تعليقات
مرحبا، وبالتوفيق